سجااااااااااااااااااان فيلبى
مارجرجس والشهداء :: الثاتية :: المزامير :: السنكسار :: الثالثة :: أقوال الاباء :: الرابعة :: شخصيات من الكتاب المقدس
صفحة 1 من اصل 1
سجااااااااااااااااااان فيلبى
سجان فيلبى
" آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك"
(أع 61 : 13)
مقدمة
من المناسب أن نذكر القصة المشهورة التى ذكرها مودى فى أحد اختباراته عندما كان يعظ فى إحدى الليالى فى سانت لويس ، وكان موضوعه فى تلك الليلة : « كيف أمسك سجان فيلبى » ونشرت إحدى الصحف هذه العظة فى اليوم التالى ، وقرأ سجين اسمه « فالنتين برك » هذه العظة وهو فى السجن ، وكان برك هذا من أشر المجرمين وأقساهم ، وكان الجميع يخشونه ويرهبونه ، قرأ العظة وهو يظن أنها حادثة تتعلق بسجان أمريكى قد أمسك به ليسجن ، ولأجل هذا قرأها ، ولكنه ما انتهى من قراءتها حتى كانت نعمة اللّه قد مسته هو ، فانحنى فى زنزانته وصلى للمرة الأولى فى حياته ، ومن تلك الليلة تغير « برك » تغيراً حاسماً ، وخرج من السجن يبحث عن عمل ، وفشل فى الحصول على عمل ، لأن الجميع كانوا يعرفون ماضيه ، وبعد شهور من التنقل بين نيويورك وبلده ، دعاه حاكم المدينة ، فخاف وظن أنها تهمة جديدة توجه إليه ، ولكن الحاكم تحدث إليه حديثاً ودياً ، وبين له أنه كان يراقب بإعجاب كفاحه ضد الظروف السيئة المحيطة به ، وعينه حارساً على مخزن كبير ، وكان « برك » سعيداً لأنه أوتمن على المجوهرات وكان قبل ذلك لصاً ، وكان يفخر بأن اللص القديم قد أصبح حارساً مؤتمناً ، لأن نعمة اللّه فعلت فيه فعلها العجيب . ونحن اليوم سنعود إلى القصة القديمة لنرى قصة السجان وكيف تغير وآمن بالرب يسوع المسيح . ويمكن متابعة القصة فيما يلى :
سجان فيلبى والحاجة إلى الخلاص
ما هو الخلاص الذى كان يقصده سجان فيلبى ، وهو يقول لبولس وسيلا « ياسيدى ماذا ينبغى أن أفعل لكى أخلص » ؟!! .. ( أع 16 : 30 ) أغلب الظن أنك لو سألته : ماذا تعنى بكلمة الخلاص ، لما وجدته قادراً على الافصاح عن مدلولها العميق الحقيقى ، ... وفى الواقع إن الخلاص هو الحاجة الأولى للانسان ، التى لا يستطيع أن يتبينها على وجه الدقة !! .. وكان بولس يعلم ذلك تماماً ، وإلا لما استطاع أن يجد تفسيراً لذهابه إلى مكدونية أثر الرؤيا التى رآها فى الليل لذلك المكدونى القائم الذى طلب إليه قائلا: «اعبر إلى مكدونية وأعنا» ، وعندما دخل بولس فيلبى ، المدينة المكدونية العظيمة ، لم يجد هناك الرجل الذى رآه فى حلمه ، بل وجد امرأة هى ليديا بياعة الأرجوان : أول من آمن بالمسيح فى أوربا،... وعندما وجد الرجل ، لم يجده فى تلك الصورة التى رآها فى الحلم ، رجلا يستنجد به ويرجوه أن يأتى إليه لمعونته ، بل وجده الرجل الذى كان يمزق ثيابه ويضربه ضربات قاسية ، ويضع رجليه فى المقطرة فى السجن الداخلى، وكثيراً ما أسأل : ترى هل كانت صورة المكدونى فى الحلم هى ذات صورة السجان أم صورة أخرى كصورة الموالى الذين خرج مكسبهم من الجارية التى أخرج منها بولس روح العرافة ، وجروا بولس وسيلا على الولاة ؟ أم الولاة الذين مزقوا ثياب بولس وسيلا ، وأمروا بضربهما بالعصى، ... لعل بولس رأى ملامح المكدونى فى واحد من هؤلاء ، الذين وقفوا ضده ، والذين يبدو حسب الظاهر أنهم يكرهون وجوده بينهم ، ويقاومونه ، ويضطهدونه ، ... لكن بولس أدرك أن المكدونى الذى يضطهده ، هو فى وجدانه العميق أحوج الناس إليه ، وإن كان لايدرى، ... إن هذه مأساة الإنسان الأعمى عن حاجته إلى الخلاص ، .. وكانت الرسالة الموضوعة علــــى بولس أصلا هى : « لتفتح عيونهم كى يرجعوا من ظلمات إلى نور ومن سلطان الشيطان إلى اللّه» ... ( أع 26 : 18 ) . ما أتعس الإنسان الذى لا يدرى بحاجته الحقيقية، ويتعلق بالأضاليل والأوهام والباطل ، يرى النور ظلاماً ، والظلام نوراً ، ويحسب الحق باطلاً ، والباطل حقاً ، يسرع إلى الشر كأنما هو الخير الأعظم ، وينفر من الخير كأنما هو الشر المطبق ، يضحك مما كان ينبغى أن يبكى عليه ، ويبكى مما كان ينبغى أن يبهجه ويسره،.. وهو يعيش أسيراً فى كل شئ، ويكفى أن نراه هنا على سبيل المثال : أسير الخرافة التى تحاول استطلاع الغيب عن طريق « الروح » فالجارية التى تملكها روح شريرة كانت تجوب شوارع فيلبى ، وهى تستهوى الناس بما تحدثهم به مما يأتى من عالم الغيب والكلمة « روح » وفى اليونانية «بايسون» تعنى تنين البر أو حية الصخرة، أو الأصلة على ما يطلق عليها السودانيون، وهى من أصل فعل معناه «يتعفن» إذ هى على ما تذهب أساطير اليونان الحية الكبرى التى قتلها أبولو على جبل البارينثوث ، وتركها هناك للعفن ، والروح هو خادم أبولو أو كاهن دلف الذى يعطيه أبولو معرفة المستقبل ، . وكان الناس يذهبون إلى معبد دلف يستطلعون الغيب، محاولين معرفة المستقبل ، وقد قيل إن كهنة دلف قالت لسقراط إنه أحكم اليونانيين جميعاً،... على أية حال إن هذه الروح التى بلغت قمة الفلسفة اليونانية ، كانت أسيرة الخرافة والجهل والظلام والقتام التى تعيش فيها بعيدة عن حق اللّه والإعلان السماوى الذى جاء به المسيح سيدنا مخلص العالم ، عندما جاء فادياً يفصل بين النور والظلام كما عمل خالقاً فى اليوم الأول عندما أرسل النور يوم كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح اللّه يرف على وجه المياه . وقال اللّه ليكن نور فكان نور ورأى اللّه النور أنه حسن . وفصل اللّه بين النور والظلمة . ودعا اللّه النور نهاراً والظلمة دعاها ليلا . وكان مساء وكان صباح يوماً واحداً».. ( تك 1 : 2 - 5 ) وأليس عجيباً أن أصغر مسيحى يعرف عن اللّه والحق والأبدية والخلاص مالم يعرفه سقراط وأفلاطون وأرسطو وجميع أساتذة الفلسفة اليونانية القديمة!.
ولسنا هنا بصدد الأسر للخرافة وحدها ، بل أكثر من ذلك للشيطان نفسه ، فقبل أن يفد بولس وسيلا إلى فيلبى كان الشيطان يرتع فى المدينة ويسود إذ استولى على جارية بائسة مستعبدة ، بل استولى على المدينة كلها التى آمنت بقدرة الشيطان على كشف الغيب والمستقبل . وعندما دخل بولس المدينة وأراد أن يؤسس عملا للمسيح هناك ، سارع الشيطان إلى التعاون معه : «هذه اتبعت بولس وإيانا وصرخت قائلة هؤلاء الناس هم عبيد اللّه العلى الذين ينادون لكم بطريق الخلاص . وكانت تفعل هذا أياماً كثيرة . فضجر بولس والتفت إلى الروح وقال أنا آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها . فخرج فى تلك الساعة » . ( أع 16 : 17 و 18 ) إن الكلمة ضجرة تعنى فى الأصل ، تضايق إلى درجة الغضب ، ... ولماذا يتضايق بولس ، ويغضب إلى هذا الحد المثير ، من روح تنادى أيضاً بالخلاص ، ؟ ! قد لا نستطيع أن ننفهم ذلك إلا إذا أدركنا كيف كانت تعمل . لقد صورتها لنا فلورانس مورس كنجسلى ، وسادتها وراءها فى شوارع فيلبى وهم ينادون الناس قائلين : تعالوا تعالوا واعرفوا المستقبل من النبية الملهمة مارا ، مارا التى هى أعظم من كهنة دلف ، ومرسلة السماء مارا ، ... هل فقدت شيئاً !! ؟ . إن مارا يمكن أن تخبرك عن المكان الخفى المخبأ فيه هذا الشئ !! ؟ هل أنت فى شك عما سيأتى به الغد!! ؟ .. إن مارا تستطيع أن تقدم لك النصيحة !! ؟ هل أنت مريض !! ؟ إن مارا يمكن أن تشفيك .. إنها تستطيع أن تكشف عن مناجم الذهب الموجودة فى فيلبى ، وهى تستطيع أن تحدثك عن أفضل يوم تتزوج فيه ، .. وأفضل يوم يمكن أن تعينه للسفر !! وما أشبه .. وكان من الطبيعى أن بولس لو قبل كلام الجارية فإن الناس بعد ذلك لا تستطيع أن تفرق بين الاثنين ، وعندئذ تختلط الحقائق بالأوهام ، والصدق بالكذب ، والحق بالباطل ، وهذا ما يفعله الشيطان على الدوام ، ... وهذا ما رفضه المسيح عندما شهد له الشيطان ، ورفضه بولس ، ورفضه كل تلميذ صادق مخلص للسيد ، إذ ليس هناك أمان على الإطلاق لقبول شهادته مهما بدت صورتها مغرية ، ومهما لبس من قناع الحب والتعاون ، لقد أراد من أول التاريخ البشرى أن يهدم الحق ، فلم يرفض الدين لعلمه بتعلق الإنسان بالأبدية التى أودعها اللّه فى قلبه ... إذا فليكن هناك لادين واحد بل مئات الأديان ، فقط بالصورة التى يمزج فيها الحق بالباطل والسم بالدسم والخير بالشر، فإذا كان هابيل يتقرب إلى اللّه عن طريق الذبيحة ، ويقيم مذبحاً ، فإن قايين لا يجوز له أن يرفض الفكرة ، فليصنع مذبحاً ويقدم عليه لا الذبيحة ، بل أفضل محصول الحقل وأكرم قربان مما يزرع ، أمام اللّه ، .. وويل لمن يخدع بهذا التغيير الذى يبدو فى الأول يسيراً إلى أن يصبح فى النهاية رهيباً مهولا !! .. ماذا يحدث لو أن فاوست - على ما صوره جوته شاعر الألمان - يعقد معاهدة مع الشيطان ، فإذا أشبعه الشيطان من كل شئ فهو عبد له ، وإذا لم يشبعه فهو حر ، ووافق الشيطان، ونقل فاوست من متعة إلى متعة، وهو يسأله السؤال التقليدى هل شبع وارتوى، والرجل يجيب بالنفى ، حتى استنفذ الشيطان كل شئ ، وحسب المعاهدة قال فاوست أخيراً : أنا حر ... فقال له الشيطان : أنت حر !! .. ولم يدر أن الخطية قد قيدته بقيود حديدية وهو لا يدرى، .. كانت فلسفة تشرشل فى الحرب ، وقد رأى زحف الألمان الرهيب ، أنه على استعداد أن يتحالف مع الشيطان لقهرهم ، ومن المؤسف أنه فعل ذلك ، .. ولكن العالم اليوم يعانى من أخطار روسيا ومن الفزع الذى تسببه للعالم الغربى أضعاف أضعاف خوفه من الألمان الذين انضموا إلى الغرب تجاه الشيطان الروسى !! .. لم يكن الخلاص من الخرافة وحدها ، بل من سر الخرافة من الشيطان نفسه !! ..
وكان الخلاص أيضاً يعنى الخلاص من المال الحرام ، ... لقد دخل بولس المدينة ليرى تجارة بشعة محرمة ، فالجارية لا قيمة لها عند سادتها ، أكثر من أنها مصدر كسب حرام ، أما قيمتها الآدمية كفتاة يعذبها الشيطان ، فهذا شئ لا يخطر لهم ببال ، وأما أن المال يأتى ولو بطريق آثم فاسد شرير ، فأمر لا يهمهم البتة ، ... إنهم يريدون الكسب على أية صورة ، وبأى أسلوب يجئ، وهم لا يمكن أن يثوروا لشئ إلا إذا « خرج رجاء مكسبهم » وهذه قصة المال الحرام فى كل التاريخ ، والذى خلف من ورائه أبشع صور الفساد والرجاسات والآثام والحروب والدنايا ، ... وهو ما يزال إلى اليوم فى كل ركن من أركان الأرض المعول الذى يحاول به الشيطان هدم الصروح العالية الشامخة التى يبنيها اللّه والحق فى الأرض !! .. ليس المهم عند طالب المال الوسيلة التى يأتى بها ، فالغاية تبرر الوسيلة ، مهما كانت بشعة ومرة وفاسدة ، « ولم يكن بولس كانسان ينادى بالخلاص ليقبل هذا الوضع ، ولأجل ذلك ضجر وقاومه ، مصححاً الوضع الذى كان ينبغى أن يصحح !! ..
على أن الخلاص فى حقيقته كان يعنى ذلك الانقلاب الذى صوره موالى الجارية وهم لا يدرون إذ اتهموا بولس وسيلا بأنهما « يناديان بعوائد لا يجوز لنا أن نقبلها ولا نعمل بها إذ نحن رومانيون » ( أع 16 : 21 ) والخلاص فى حقيقته ليس مجرد تغير فكر الإنسان أو مشاعره، بل بالحرى تغير إرادته أيضاً ، أو تحوله عن العوائد التى أرساها العالم فى أعماقه وحياته،... «إذاً إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة . الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً » ( 2 كو 5 : 17 ) .... كان الانتحار عند الرومانيين مثلاً - فضيلة ، وقد انتحر بروتس وكاسيوس خارج فيلبى بعد أن هزما فى معاركهما ضد أكتافيوس وأنطونيوس ، كما أن كاتو الفيلسوف وهو يقتل نفسه ، وجد تأييداً وتمجيداً من سينكا وأبيقور وبلنى ، ... فإذا جاء السجان ليهم بالانتحار بعد أن تصور هروب المساجين ، فإن هذا لم يكن جبناً منه فى مواجهة السلطات التى قد تسأله عن سر الهروب ، بل كان الشجاعة التى يتطلبها الرومان فى مثل هذه المواقف،... كما أن القسوة التى عامل بها السجان الرسولين ، وهو يضبط أرجلهما فى المقطرة ، كانت تكشف عن طبيعته الجافية القاسية ، والتى لم ير فيها ضرراً أو عيباً ، فقد كانت هذه العوائد تعد فضائل عند الرومان ، وكان ينبغى أن تقلب رأساً على عقب فى المفهوم المسيحى للخلاص !!.. وكان سجان فيلبى فى حاجة إليه ، .. أو بتعبير أدق وأصح ، كان المكدونى المنتصب أمام بولس فى الليل هو الرجل الذى عانى منها الأمرين ويحتاج إلى الخلاص الذى جاء به المسيح سيدنا مخلص العالم !! ..
سجان فيلبى والبحث عن الخلاص
لكن السؤال الذى يمكن أن يثار بعد أن أدركنا حاجة السجان إلى الخلاص ، هو لماذا بحث عنه على هذه الصورة التى فيها يذهب إلى بولس وهو مرتعد وفزع !! .. إن هناك أسباباً عديدة يمكن أن تكون دافعة له إلى ذلك !! .. ولعل فى مقدمتها الزلزلة العظيمة التى حدثت بغتة ، وهى الأسلوب الذى رآه السيد مناسباً لا ليوقظ الرجل من نومه فحسب ، بل ليوقظه من نوم الخطية وغفلتها !! .. ولا نملك هنا إلا أن نرى الأسلوبين المختلفين والمتضادين اللذين استخدمهما اللّه فى فتح قلب ليدية ، وفتح قلب السجان ، ... لقد فتح الرب قلب ليدية بهدوء ، وهى تستمع إلى كلمات بولس على شاطئ النهر خارج المدينة لكنه عندما أراد أن يفتح قلب السجان لجأ إلى الزلزال ، والسؤال : هل يرجع الأمر إلى طبيعة القلبين المختلفين ، فقلب ليدية المطيع الهادئ ، كان يحتاج إلى أسلوب هادئ ، فهو يستجيب إلى أبسط الطرق وأهدأها ، فى الوقت الذى يحتاج فيه قلب السجان القاسى إلى الزلزال العنيف !! .. لسنا نعرف على وجه اليقين ، ولا نستطيع أن نحدد الأسلوب الذى يستخدمه اللّه فى علاج القلوب البشرية وفتحها ، لكننا نعلم ، على أية حال أن هناك ألوفاً من الوسائل والسبل التى يستخدمها اللّه بنجاح فى إخضاع النفس البشرية لشخصه المبارك ، وهى تتفاوت بين الطرقة الخفيفة والزلزال المرعب ، ... على أنه لا يجوز أن نقف هنا عند مجرد دافع الخوف الذى دفع الرجل إلى طلب الخلاص ، ... لقد اكتشف أن الرسولين ينتميان إلى عالم مجهول لم يحدث الزلزال فحسب ، بل فتح أبواب السجن وحل قيود المسجونين،.. فهو إذاً أمام قوة المسيحية العجيبة التى تستطيع أن تخضع الجبابرة والعتاة !! .. وفى الحقيقة إن المسيحية وهى تنادى بخلاص النفوس ، ليست مجرد كلمات تسمع ، بل هى زلزال يقلب جميع الأشياء رأساً على عقب ، وهى قوة ينبغى أن يحسب لها ألف حساب ، فى عالم المنظور أو غير المنظور ، .. إنها تكشف عن قوة اللّه الذى يتدخل فى حياة البشر ، على صورة لا يمكن أن تكون موضوعاً للجدل والمناقشة أو محلا للغموض والإبهام ، ... على أن هناك شيئاً آخر أهم وأعظم ، دفع السجان إلى طلب الخلاص ، ونعنى به قوة السلام المسيحى ، فهذان الرجلان اللذان مزقت ثيابهما ، وعوملا أعنف معاملة وأقساها ، واللذان زج بهما فى المقطرة ، ووضعهما فى السجن الداخلى ، فى وسط جماعات المجرمين وحثالة القوم والذين لا يسمع منهم إلا أقسى الكلمات وأشرها وادعاها إلى الحقد والضغينة والتذمر ، ما بالهما يفعلان شيئاً لم يعرفه سجن فيلبى من قبل على وجه الإطلاق ، إنهما يصليان ويسبحان اللّه ، والمسجونون يسمعونهما ، والكلمات فى الأصل اليونانى تشير إلى أن السمع كان بالبهجة والشوق والسرور ، ... إن من السهل أن يضحك الإنسان ويصلى ويغنى فى النهار ، وفى القصر أو فى الحديقة الغناء ، أما أن يحدث هنا فى السجن الداخلى والجراح قاسية والحشرات تنهش الأجسام ، والنوم صعب وممتنع ، فهذا شئ فوق الطبيعة البشرية ، ... وهو كما عبر عنه الرسول : « سلام اللّه الذى يفوق كل عقل » وهو يفوق الإدراك والتصور والفهم البشرى ، ... إنه سلام الفرح المسيحى الذى قال عنه الرسول لأهل فيلبى فى رسالته إليهم : « افرحوا فى الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا » ( فى 4 : 4 ) .. ولم تكن نصيحة يقولها فى برجه العاجى، بل إنه كتبها وهو فى سجن روما ، إلى إخوته الفلبيين الذين يعلمون تمام العلم أنه اختبرها فى السجن الداخلى فى المقطرة عندهم فى فيلبى !! .. حقاً عندما يرى الناس الفرح المسيحى فى حياتنا عميقاً قوياً فى كل الظروف ، فلابد أنهم يهرعون إلينا وهم يقولون : ماذا نفعل لكى نصل إلى هذا الخلاص ونحصل عليه ونتمتع به مثلكم ونظيركم ؟ !! .. ومع هذا فإن هناك سبباً ثالثاً ونعنى به الرحمة المسيحية !! ... لو أن واحداً غير بولس أبصر السجان يهم بقتل نفسه ، لسر كثيراً ورأى فى ذلك عدالة اللّه تجاه الشر والظلم والقسوة التى حاقت به وبزميله إلا أن بولس فى صرخته للرجل : «لا تفعل بنفسك شيئاً ردياً لأن جميعنا هنا» كشف عما فى المسيحية من رحمة وحب وإحسان وتسامح ، .. إنها ليست شيئاً أرضياً مما يموج به الجنس البشرى من أفكار وعواطف ، بل هى - أكثر من ذلك - إعلان سماوى مجيد عن حب اللّه وإحسانه العظيم للأثمة والأشرار والمتمردين والخطاة ! ما أكثر ما يفهم العالم تصرفنا الرقيق أكثر من مواعظنا البليغة،.. وما أكثر ما تترجم رسالة المنبر من خلال حياتنا وتصرفاتنا اليومية!!..
سجان فيلبى والطريق إلى الخلاص
رفع سجان فيلبى صوته صارخاً : « ياسيدئَّ ماذا ينبغى أن أفعل لكى أخلص » ( أع 16 : 30 ) .. وكان على بولس وهو يجيب على السؤال أن يصحح أمرين أولهما عبارة « ياسيدىَّ » إذ يلزم السجان أن يتحول عنهما ومن النظر إليهما إلى الرب والسيد الصحيح : « آمن بالرب » وبولس هنا أشبه بأليشع فى القديم الذى ذهب إليه نعمان السريانى ينشد خلاصاً من برصه ، ورفض اليشع أن يظهر مجرد ظهور أمام الرجل وطلب إليه أن يذهب إلى الأردن ليغتسل سبع مرات ، الأمر الذى أغاظ نعمان أشد الغيظ ، لتجاهل النبى أبسط قواعد الضيافة التى يمكن أن يظهرها المضيف للغريب الذى يسعى إليه من بلاد بعيدة ، ... ولكن أليشع كان عنده ما هو أهم من كل أساليب المجاملة البشرية ، ونعنى به خلاص الرجل ، الذى ينبغى أن ينسب إلى اللّه دون الأداة البشرية التى تتمثل فى مظهر النبى ويده على موضع الداء والمرض ! كانت أنظار سجان فيلبى وهو يحمل الضوء إلى داخل السجن فى فيلبى مسلطة على الرجلين اللذين أصبحا لا فى مركز المتهمين المهانين المتألمين ، بل فى مركز السيدين ، .. وحول بولس نظر السجان إلى الشخص الوحيد - دون سواه - الذى يمكن أن يعطى الخلاص ، ... وكان الأمر الثانى الذى يلزم تصحيحه هو « أن أفعل » فالمفهوم عند الكثيرين ، وإلى اليوم فى كل أجيال التاريخ أن الخلاص عند ملايين البشر، حسب تصورهم يتوقف على طقوس أو فرائض أو أعمال أو جهاد بأية صورة من الصور. « أن أفعل » . وقد بين الرجل أنه مستعد أن يفعل كل ما يطلب منه فى سبيل الخلاص ، ... وجاء جواب الرسول بعيداً جداً عما يتخيل الرجل أو يتصور على الإطلاق!! لقد أخرجه من منطق الفعل إلى منطق الإيمان ، .. وكأنما يقول له: إن أكبر خطأ يقع فيه الإنسان هو تصوره الحصول على الخلاص عن طريق فعل ما!!.. إن هناك فعلا ما لابد منه للخلاص، .. ولكنه ليس فعلى أو فعلك،.. بل هو ما فعله الرب يسوع المسيح على هضبة الجلجثة هذا هو فعله الكامل الذى لا يحتاج إلى أية إضافة بأية صورة من الصور،... قال كريسماس إيفانز رجل النهضات العظيم إنه وقف على باب السماء وهو يراقب دخول الناس،... ورأى رجلا يقترب ، وسأله الواقف على باب السماء : على أى أساس تستند فى الدخول ؟ .. وذكر الرجل - وكان فى مطلع حياته يبيع البيرة ، وكسب منها مكسباً طائلاً ، وقد دفع ذات مرة خمسين ألفاً من الدولارات لعمل خيرى - .. وذكر هذا الرقم أمام باب السماء ، ووجد مرفوضاً!!.. واقترب آخر وعندما سئل على أى أساس يدخل أجاب : على حساب دم الفادى الكريم ربى يسوع المسيح ، فلم يطلب منه أى شئ آخر !! ... فى الحرب الأهلية الأمريكية كان هناك واعظ معروف نشط يعمل بين المقاتلين ، وذات يوم كان فى طريقه إلى أحد المعسكرات ، فأوقفه الحارس وسأله عن كلمة المرور فأجاب بكلمة كانت مستخدمة فى اليوم السابق ، ولكنها تغيرت بعد ذلك ، وقال الجندى وهو يعرفه : ارجع فإن الكلمة تغيرت ، وإلا فالموت نصيبك ، ورجع الواعظ وعرف الكلمة ثم عاد ليقولها للحارس ، وإذ سمح له بالدخول قال هو بدوره للحارس : هل تعرف جواز السفر إلى السماء ، وما هى كلمة السر التى بها يمكن أن تدخل هناك !! .. وأجاب الجندى وكان رجلا مسيحياً مجدداً نعم أعرفها : « ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية » .. أجل !! ولهذا قال بولس للسجان : « آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص » ... ولعله ما تجدر الإشارة إليه أن حرف « الباء » فى الأصل اليونانى (Epi) يمكن أن يترجم بصورة أقرب وأدق إلى « على » ، .. وعليه فالكلمة « آمن بالرب » يمكن أن تكون « اعتمد على الرب يسوع المسيح » ... ولعلنا نستطيع أن نفهمها بالمعنى الذى فهمته فتاة صغيرة ، كان أبوها يعمل عملا فى قبو فى المنزل ، وطلبوا إليها أن تذهب إليه ، ولكنها وجدت السلم إلى القبو مرفوعاً ، .. فقالت لأبيها لا أستطيع أن أنزل لأن السلم غير موجود .. وقال لها الأب : اقفزى سأتلقاك !! .. وأجابت : ولكن الظلام شديد ولا أستطيع رؤياك !! .. فقال أبوها : ولكنى أراك أنا يابنتى وذراعاى مفتوحتان وواسعتان ومستعدتان للامساك بك عند النزول !! .. ولم تتردد البنت فى القفز لتجد الذراعين القويتين تحملانها فى سلام وأمان !! .. هذا هو المعنى المسيحى لإيماننا بالخلاص فى الرب يسوع المسيح !! .. لقد فعل هو كل شئ ، وخلاصنا من الألف إلى الياء يرجع إليه وإلى كفارته وشفاعته وضمانه الأبدى !! .. فقط « آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص » !! .. على أن الرسول بولس أضاف إضافة مثيرة جديرة بكل ملاحظة وانتباه ، فى القول « أنت وأهل بيتك » ، وليس معنى هذا أن خلاص البيت يأتى بالجملة نتيجة خلاص رب البيت ، فالخلاص دائماً إلى الأبد عملية فردية شخصية فى العلاقة بين الإنسان وربه ، .. لكن الرسول بولس - كالسيد المسيح سواء بسواء - يربط خلاص البيت بخلاص صاحبه إذ هذا امتيازه ومسئوليته ، وكما قال السيد لزكا : « اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضاً ابن إبراهيم » ( لو 19 : 9 ) ، قال بولس للسجان « فتخلص أنت وأهل بيتك » !! ..
سجان فيلبى والتمتع بالخلاص
لا تحتاج عملية الخلاص إلى زمن أو جهد كبير ، ومن ثم نلاحظ أن سبرجن وهو يتحدث عن السجان وخلاصه ، يصف مراحل حياته المتغيرة فى ساعة واحدة من الزمن من (1) وثنى وحشى إلى ، (2) باحث مجد إلى ، (3) مؤمن فــــرح ، إلى (4) مسيحى عامل .
ومن اللحظة التى قبل فيها المسيح تغير كل شئ ، فالجراح التى سببها للرسولين عاد فغسلها ونظفها ، والاضطهاد والقسوة استبدلهما بالترحيب والدعوة إلى بيته ، وتقديم المائدة الحافلة . والفزع والاضطراب والارتعاد إلى الدرجة التى فيها أوشك على الانتحار ، تحولت إلى الفرح المجيد العميق بالخلاص ، وهو يأتى إلى بيته بهذه البشرى ، ويسمع البيت رسالة الخلاص ، ويؤمن الكل بالرسالة الإلهية ، ويعتمد هو والذين له أجمعون ، ويلتحم البيت بصاحبه التحاماً كاملا فى الخلاص ، وفى المعمودية أيضاً ، التى تتم على هذا الأساس لتمتد إلى البيت المسيحى، وكما اعتمدت ليدية هى وأهل بيتها ، اعتمد السجان والذين له أجمعون ، ويكاد يكون غريباً وغير مألوف أن يقال إن جميع من كانوا فى البيتين كانوا كباراً بالغين ، ولم يكن فيهم صغير ، وذلك على مذهب المؤمنين بمعمودية الكبار ليس إلا ، ولكن النص الشامل عن البيتين فى فيلبى يشجع على امتداد المعمودية حتى إلى الصغار الذين ينتسبون إلى أباء وأمهات من المؤمنين .. ومن المثير أيضاً أن السجان تساءل عن فعل يفعله ، وجاءه الجواب خلواً من كل فعل ، وفى هذا رد على القائلين بضرورة ارتباط الإيمان بالأعمال ، إذ قال الرسول : « آمن بالرب يسوع المسيح » وإذا تم الإيمان وحدث الخلاص ، وولد الرجل جديداً ، جاء ثمر الإيمان نتيجة الخلاص ، لاسبباً أو تكميلا له ، وهذا برهان ناصع وقاطع على أن الخلاص الصحيح بالإيمان لابد أن يكون له الثمر الواضح الظاهر للجميع .
ونحن لا يمكن أن نختم قصة السجان دون أن نشير إلى أن بولس تمسك بحقه القانونى عندما رفض أن يخرج سراً من السجن ، كما طلب الولاة ذلك ، الذين دانوه وهو رومانى الجنسية وأذوه دون وجه حق ، ولو أن بولس رفع الأمر إلى القضاء على المعاملة غير القانونية ، لسبب لهم الكثير من المتاعب التى قد تبلغ حد فقدان وظائفهم أو ما هو أكثر من ذلك من أحكام . وبولس يعلمنا أن التمسك بالحق القانونى ليس مجافياً للأسلوب المسيحى أو ضده ، بل يبقى أمراً لازماً فى كثير من الأحايين إذا كان فى خدمة الحق ولمساندته ، مع ما ينبغى أن نتحلى به فى الوقت نفسه من المرونة التى جعلته يقبل الاعتذار من الولاة الذين أبدوا أسفهم على ما ارتكبوه من خطأ!! .. وخرج بولس من المكان بعد أن أسس كنيسة كتب لها من سجنه أجمل وأحلى رسالة عن الفرح المسيحى وحول المكدونى الصارخ - فى شخص السجــان - إلى الرجـــــل الذى قيل عنه : « ولما أصعدهمــــا إلى بيته قـــدم لهمـــــا مائــدة وتهلل مع جميع بيـــته إذ كان قـــــد آمن باللّه !! .. »
" آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك"
(أع 61 : 13)
مقدمة
من المناسب أن نذكر القصة المشهورة التى ذكرها مودى فى أحد اختباراته عندما كان يعظ فى إحدى الليالى فى سانت لويس ، وكان موضوعه فى تلك الليلة : « كيف أمسك سجان فيلبى » ونشرت إحدى الصحف هذه العظة فى اليوم التالى ، وقرأ سجين اسمه « فالنتين برك » هذه العظة وهو فى السجن ، وكان برك هذا من أشر المجرمين وأقساهم ، وكان الجميع يخشونه ويرهبونه ، قرأ العظة وهو يظن أنها حادثة تتعلق بسجان أمريكى قد أمسك به ليسجن ، ولأجل هذا قرأها ، ولكنه ما انتهى من قراءتها حتى كانت نعمة اللّه قد مسته هو ، فانحنى فى زنزانته وصلى للمرة الأولى فى حياته ، ومن تلك الليلة تغير « برك » تغيراً حاسماً ، وخرج من السجن يبحث عن عمل ، وفشل فى الحصول على عمل ، لأن الجميع كانوا يعرفون ماضيه ، وبعد شهور من التنقل بين نيويورك وبلده ، دعاه حاكم المدينة ، فخاف وظن أنها تهمة جديدة توجه إليه ، ولكن الحاكم تحدث إليه حديثاً ودياً ، وبين له أنه كان يراقب بإعجاب كفاحه ضد الظروف السيئة المحيطة به ، وعينه حارساً على مخزن كبير ، وكان « برك » سعيداً لأنه أوتمن على المجوهرات وكان قبل ذلك لصاً ، وكان يفخر بأن اللص القديم قد أصبح حارساً مؤتمناً ، لأن نعمة اللّه فعلت فيه فعلها العجيب . ونحن اليوم سنعود إلى القصة القديمة لنرى قصة السجان وكيف تغير وآمن بالرب يسوع المسيح . ويمكن متابعة القصة فيما يلى :
سجان فيلبى والحاجة إلى الخلاص
ما هو الخلاص الذى كان يقصده سجان فيلبى ، وهو يقول لبولس وسيلا « ياسيدى ماذا ينبغى أن أفعل لكى أخلص » ؟!! .. ( أع 16 : 30 ) أغلب الظن أنك لو سألته : ماذا تعنى بكلمة الخلاص ، لما وجدته قادراً على الافصاح عن مدلولها العميق الحقيقى ، ... وفى الواقع إن الخلاص هو الحاجة الأولى للانسان ، التى لا يستطيع أن يتبينها على وجه الدقة !! .. وكان بولس يعلم ذلك تماماً ، وإلا لما استطاع أن يجد تفسيراً لذهابه إلى مكدونية أثر الرؤيا التى رآها فى الليل لذلك المكدونى القائم الذى طلب إليه قائلا: «اعبر إلى مكدونية وأعنا» ، وعندما دخل بولس فيلبى ، المدينة المكدونية العظيمة ، لم يجد هناك الرجل الذى رآه فى حلمه ، بل وجد امرأة هى ليديا بياعة الأرجوان : أول من آمن بالمسيح فى أوربا،... وعندما وجد الرجل ، لم يجده فى تلك الصورة التى رآها فى الحلم ، رجلا يستنجد به ويرجوه أن يأتى إليه لمعونته ، بل وجده الرجل الذى كان يمزق ثيابه ويضربه ضربات قاسية ، ويضع رجليه فى المقطرة فى السجن الداخلى، وكثيراً ما أسأل : ترى هل كانت صورة المكدونى فى الحلم هى ذات صورة السجان أم صورة أخرى كصورة الموالى الذين خرج مكسبهم من الجارية التى أخرج منها بولس روح العرافة ، وجروا بولس وسيلا على الولاة ؟ أم الولاة الذين مزقوا ثياب بولس وسيلا ، وأمروا بضربهما بالعصى، ... لعل بولس رأى ملامح المكدونى فى واحد من هؤلاء ، الذين وقفوا ضده ، والذين يبدو حسب الظاهر أنهم يكرهون وجوده بينهم ، ويقاومونه ، ويضطهدونه ، ... لكن بولس أدرك أن المكدونى الذى يضطهده ، هو فى وجدانه العميق أحوج الناس إليه ، وإن كان لايدرى، ... إن هذه مأساة الإنسان الأعمى عن حاجته إلى الخلاص ، .. وكانت الرسالة الموضوعة علــــى بولس أصلا هى : « لتفتح عيونهم كى يرجعوا من ظلمات إلى نور ومن سلطان الشيطان إلى اللّه» ... ( أع 26 : 18 ) . ما أتعس الإنسان الذى لا يدرى بحاجته الحقيقية، ويتعلق بالأضاليل والأوهام والباطل ، يرى النور ظلاماً ، والظلام نوراً ، ويحسب الحق باطلاً ، والباطل حقاً ، يسرع إلى الشر كأنما هو الخير الأعظم ، وينفر من الخير كأنما هو الشر المطبق ، يضحك مما كان ينبغى أن يبكى عليه ، ويبكى مما كان ينبغى أن يبهجه ويسره،.. وهو يعيش أسيراً فى كل شئ، ويكفى أن نراه هنا على سبيل المثال : أسير الخرافة التى تحاول استطلاع الغيب عن طريق « الروح » فالجارية التى تملكها روح شريرة كانت تجوب شوارع فيلبى ، وهى تستهوى الناس بما تحدثهم به مما يأتى من عالم الغيب والكلمة « روح » وفى اليونانية «بايسون» تعنى تنين البر أو حية الصخرة، أو الأصلة على ما يطلق عليها السودانيون، وهى من أصل فعل معناه «يتعفن» إذ هى على ما تذهب أساطير اليونان الحية الكبرى التى قتلها أبولو على جبل البارينثوث ، وتركها هناك للعفن ، والروح هو خادم أبولو أو كاهن دلف الذى يعطيه أبولو معرفة المستقبل ، . وكان الناس يذهبون إلى معبد دلف يستطلعون الغيب، محاولين معرفة المستقبل ، وقد قيل إن كهنة دلف قالت لسقراط إنه أحكم اليونانيين جميعاً،... على أية حال إن هذه الروح التى بلغت قمة الفلسفة اليونانية ، كانت أسيرة الخرافة والجهل والظلام والقتام التى تعيش فيها بعيدة عن حق اللّه والإعلان السماوى الذى جاء به المسيح سيدنا مخلص العالم ، عندما جاء فادياً يفصل بين النور والظلام كما عمل خالقاً فى اليوم الأول عندما أرسل النور يوم كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح اللّه يرف على وجه المياه . وقال اللّه ليكن نور فكان نور ورأى اللّه النور أنه حسن . وفصل اللّه بين النور والظلمة . ودعا اللّه النور نهاراً والظلمة دعاها ليلا . وكان مساء وكان صباح يوماً واحداً».. ( تك 1 : 2 - 5 ) وأليس عجيباً أن أصغر مسيحى يعرف عن اللّه والحق والأبدية والخلاص مالم يعرفه سقراط وأفلاطون وأرسطو وجميع أساتذة الفلسفة اليونانية القديمة!.
ولسنا هنا بصدد الأسر للخرافة وحدها ، بل أكثر من ذلك للشيطان نفسه ، فقبل أن يفد بولس وسيلا إلى فيلبى كان الشيطان يرتع فى المدينة ويسود إذ استولى على جارية بائسة مستعبدة ، بل استولى على المدينة كلها التى آمنت بقدرة الشيطان على كشف الغيب والمستقبل . وعندما دخل بولس المدينة وأراد أن يؤسس عملا للمسيح هناك ، سارع الشيطان إلى التعاون معه : «هذه اتبعت بولس وإيانا وصرخت قائلة هؤلاء الناس هم عبيد اللّه العلى الذين ينادون لكم بطريق الخلاص . وكانت تفعل هذا أياماً كثيرة . فضجر بولس والتفت إلى الروح وقال أنا آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها . فخرج فى تلك الساعة » . ( أع 16 : 17 و 18 ) إن الكلمة ضجرة تعنى فى الأصل ، تضايق إلى درجة الغضب ، ... ولماذا يتضايق بولس ، ويغضب إلى هذا الحد المثير ، من روح تنادى أيضاً بالخلاص ، ؟ ! قد لا نستطيع أن ننفهم ذلك إلا إذا أدركنا كيف كانت تعمل . لقد صورتها لنا فلورانس مورس كنجسلى ، وسادتها وراءها فى شوارع فيلبى وهم ينادون الناس قائلين : تعالوا تعالوا واعرفوا المستقبل من النبية الملهمة مارا ، مارا التى هى أعظم من كهنة دلف ، ومرسلة السماء مارا ، ... هل فقدت شيئاً !! ؟ . إن مارا يمكن أن تخبرك عن المكان الخفى المخبأ فيه هذا الشئ !! ؟ هل أنت فى شك عما سيأتى به الغد!! ؟ .. إن مارا تستطيع أن تقدم لك النصيحة !! ؟ هل أنت مريض !! ؟ إن مارا يمكن أن تشفيك .. إنها تستطيع أن تكشف عن مناجم الذهب الموجودة فى فيلبى ، وهى تستطيع أن تحدثك عن أفضل يوم تتزوج فيه ، .. وأفضل يوم يمكن أن تعينه للسفر !! وما أشبه .. وكان من الطبيعى أن بولس لو قبل كلام الجارية فإن الناس بعد ذلك لا تستطيع أن تفرق بين الاثنين ، وعندئذ تختلط الحقائق بالأوهام ، والصدق بالكذب ، والحق بالباطل ، وهذا ما يفعله الشيطان على الدوام ، ... وهذا ما رفضه المسيح عندما شهد له الشيطان ، ورفضه بولس ، ورفضه كل تلميذ صادق مخلص للسيد ، إذ ليس هناك أمان على الإطلاق لقبول شهادته مهما بدت صورتها مغرية ، ومهما لبس من قناع الحب والتعاون ، لقد أراد من أول التاريخ البشرى أن يهدم الحق ، فلم يرفض الدين لعلمه بتعلق الإنسان بالأبدية التى أودعها اللّه فى قلبه ... إذا فليكن هناك لادين واحد بل مئات الأديان ، فقط بالصورة التى يمزج فيها الحق بالباطل والسم بالدسم والخير بالشر، فإذا كان هابيل يتقرب إلى اللّه عن طريق الذبيحة ، ويقيم مذبحاً ، فإن قايين لا يجوز له أن يرفض الفكرة ، فليصنع مذبحاً ويقدم عليه لا الذبيحة ، بل أفضل محصول الحقل وأكرم قربان مما يزرع ، أمام اللّه ، .. وويل لمن يخدع بهذا التغيير الذى يبدو فى الأول يسيراً إلى أن يصبح فى النهاية رهيباً مهولا !! .. ماذا يحدث لو أن فاوست - على ما صوره جوته شاعر الألمان - يعقد معاهدة مع الشيطان ، فإذا أشبعه الشيطان من كل شئ فهو عبد له ، وإذا لم يشبعه فهو حر ، ووافق الشيطان، ونقل فاوست من متعة إلى متعة، وهو يسأله السؤال التقليدى هل شبع وارتوى، والرجل يجيب بالنفى ، حتى استنفذ الشيطان كل شئ ، وحسب المعاهدة قال فاوست أخيراً : أنا حر ... فقال له الشيطان : أنت حر !! .. ولم يدر أن الخطية قد قيدته بقيود حديدية وهو لا يدرى، .. كانت فلسفة تشرشل فى الحرب ، وقد رأى زحف الألمان الرهيب ، أنه على استعداد أن يتحالف مع الشيطان لقهرهم ، ومن المؤسف أنه فعل ذلك ، .. ولكن العالم اليوم يعانى من أخطار روسيا ومن الفزع الذى تسببه للعالم الغربى أضعاف أضعاف خوفه من الألمان الذين انضموا إلى الغرب تجاه الشيطان الروسى !! .. لم يكن الخلاص من الخرافة وحدها ، بل من سر الخرافة من الشيطان نفسه !! ..
وكان الخلاص أيضاً يعنى الخلاص من المال الحرام ، ... لقد دخل بولس المدينة ليرى تجارة بشعة محرمة ، فالجارية لا قيمة لها عند سادتها ، أكثر من أنها مصدر كسب حرام ، أما قيمتها الآدمية كفتاة يعذبها الشيطان ، فهذا شئ لا يخطر لهم ببال ، وأما أن المال يأتى ولو بطريق آثم فاسد شرير ، فأمر لا يهمهم البتة ، ... إنهم يريدون الكسب على أية صورة ، وبأى أسلوب يجئ، وهم لا يمكن أن يثوروا لشئ إلا إذا « خرج رجاء مكسبهم » وهذه قصة المال الحرام فى كل التاريخ ، والذى خلف من ورائه أبشع صور الفساد والرجاسات والآثام والحروب والدنايا ، ... وهو ما يزال إلى اليوم فى كل ركن من أركان الأرض المعول الذى يحاول به الشيطان هدم الصروح العالية الشامخة التى يبنيها اللّه والحق فى الأرض !! .. ليس المهم عند طالب المال الوسيلة التى يأتى بها ، فالغاية تبرر الوسيلة ، مهما كانت بشعة ومرة وفاسدة ، « ولم يكن بولس كانسان ينادى بالخلاص ليقبل هذا الوضع ، ولأجل ذلك ضجر وقاومه ، مصححاً الوضع الذى كان ينبغى أن يصحح !! ..
على أن الخلاص فى حقيقته كان يعنى ذلك الانقلاب الذى صوره موالى الجارية وهم لا يدرون إذ اتهموا بولس وسيلا بأنهما « يناديان بعوائد لا يجوز لنا أن نقبلها ولا نعمل بها إذ نحن رومانيون » ( أع 16 : 21 ) والخلاص فى حقيقته ليس مجرد تغير فكر الإنسان أو مشاعره، بل بالحرى تغير إرادته أيضاً ، أو تحوله عن العوائد التى أرساها العالم فى أعماقه وحياته،... «إذاً إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة . الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً » ( 2 كو 5 : 17 ) .... كان الانتحار عند الرومانيين مثلاً - فضيلة ، وقد انتحر بروتس وكاسيوس خارج فيلبى بعد أن هزما فى معاركهما ضد أكتافيوس وأنطونيوس ، كما أن كاتو الفيلسوف وهو يقتل نفسه ، وجد تأييداً وتمجيداً من سينكا وأبيقور وبلنى ، ... فإذا جاء السجان ليهم بالانتحار بعد أن تصور هروب المساجين ، فإن هذا لم يكن جبناً منه فى مواجهة السلطات التى قد تسأله عن سر الهروب ، بل كان الشجاعة التى يتطلبها الرومان فى مثل هذه المواقف،... كما أن القسوة التى عامل بها السجان الرسولين ، وهو يضبط أرجلهما فى المقطرة ، كانت تكشف عن طبيعته الجافية القاسية ، والتى لم ير فيها ضرراً أو عيباً ، فقد كانت هذه العوائد تعد فضائل عند الرومان ، وكان ينبغى أن تقلب رأساً على عقب فى المفهوم المسيحى للخلاص !!.. وكان سجان فيلبى فى حاجة إليه ، .. أو بتعبير أدق وأصح ، كان المكدونى المنتصب أمام بولس فى الليل هو الرجل الذى عانى منها الأمرين ويحتاج إلى الخلاص الذى جاء به المسيح سيدنا مخلص العالم !! ..
سجان فيلبى والبحث عن الخلاص
لكن السؤال الذى يمكن أن يثار بعد أن أدركنا حاجة السجان إلى الخلاص ، هو لماذا بحث عنه على هذه الصورة التى فيها يذهب إلى بولس وهو مرتعد وفزع !! .. إن هناك أسباباً عديدة يمكن أن تكون دافعة له إلى ذلك !! .. ولعل فى مقدمتها الزلزلة العظيمة التى حدثت بغتة ، وهى الأسلوب الذى رآه السيد مناسباً لا ليوقظ الرجل من نومه فحسب ، بل ليوقظه من نوم الخطية وغفلتها !! .. ولا نملك هنا إلا أن نرى الأسلوبين المختلفين والمتضادين اللذين استخدمهما اللّه فى فتح قلب ليدية ، وفتح قلب السجان ، ... لقد فتح الرب قلب ليدية بهدوء ، وهى تستمع إلى كلمات بولس على شاطئ النهر خارج المدينة لكنه عندما أراد أن يفتح قلب السجان لجأ إلى الزلزال ، والسؤال : هل يرجع الأمر إلى طبيعة القلبين المختلفين ، فقلب ليدية المطيع الهادئ ، كان يحتاج إلى أسلوب هادئ ، فهو يستجيب إلى أبسط الطرق وأهدأها ، فى الوقت الذى يحتاج فيه قلب السجان القاسى إلى الزلزال العنيف !! .. لسنا نعرف على وجه اليقين ، ولا نستطيع أن نحدد الأسلوب الذى يستخدمه اللّه فى علاج القلوب البشرية وفتحها ، لكننا نعلم ، على أية حال أن هناك ألوفاً من الوسائل والسبل التى يستخدمها اللّه بنجاح فى إخضاع النفس البشرية لشخصه المبارك ، وهى تتفاوت بين الطرقة الخفيفة والزلزال المرعب ، ... على أنه لا يجوز أن نقف هنا عند مجرد دافع الخوف الذى دفع الرجل إلى طلب الخلاص ، ... لقد اكتشف أن الرسولين ينتميان إلى عالم مجهول لم يحدث الزلزال فحسب ، بل فتح أبواب السجن وحل قيود المسجونين،.. فهو إذاً أمام قوة المسيحية العجيبة التى تستطيع أن تخضع الجبابرة والعتاة !! .. وفى الحقيقة إن المسيحية وهى تنادى بخلاص النفوس ، ليست مجرد كلمات تسمع ، بل هى زلزال يقلب جميع الأشياء رأساً على عقب ، وهى قوة ينبغى أن يحسب لها ألف حساب ، فى عالم المنظور أو غير المنظور ، .. إنها تكشف عن قوة اللّه الذى يتدخل فى حياة البشر ، على صورة لا يمكن أن تكون موضوعاً للجدل والمناقشة أو محلا للغموض والإبهام ، ... على أن هناك شيئاً آخر أهم وأعظم ، دفع السجان إلى طلب الخلاص ، ونعنى به قوة السلام المسيحى ، فهذان الرجلان اللذان مزقت ثيابهما ، وعوملا أعنف معاملة وأقساها ، واللذان زج بهما فى المقطرة ، ووضعهما فى السجن الداخلى ، فى وسط جماعات المجرمين وحثالة القوم والذين لا يسمع منهم إلا أقسى الكلمات وأشرها وادعاها إلى الحقد والضغينة والتذمر ، ما بالهما يفعلان شيئاً لم يعرفه سجن فيلبى من قبل على وجه الإطلاق ، إنهما يصليان ويسبحان اللّه ، والمسجونون يسمعونهما ، والكلمات فى الأصل اليونانى تشير إلى أن السمع كان بالبهجة والشوق والسرور ، ... إن من السهل أن يضحك الإنسان ويصلى ويغنى فى النهار ، وفى القصر أو فى الحديقة الغناء ، أما أن يحدث هنا فى السجن الداخلى والجراح قاسية والحشرات تنهش الأجسام ، والنوم صعب وممتنع ، فهذا شئ فوق الطبيعة البشرية ، ... وهو كما عبر عنه الرسول : « سلام اللّه الذى يفوق كل عقل » وهو يفوق الإدراك والتصور والفهم البشرى ، ... إنه سلام الفرح المسيحى الذى قال عنه الرسول لأهل فيلبى فى رسالته إليهم : « افرحوا فى الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا » ( فى 4 : 4 ) .. ولم تكن نصيحة يقولها فى برجه العاجى، بل إنه كتبها وهو فى سجن روما ، إلى إخوته الفلبيين الذين يعلمون تمام العلم أنه اختبرها فى السجن الداخلى فى المقطرة عندهم فى فيلبى !! .. حقاً عندما يرى الناس الفرح المسيحى فى حياتنا عميقاً قوياً فى كل الظروف ، فلابد أنهم يهرعون إلينا وهم يقولون : ماذا نفعل لكى نصل إلى هذا الخلاص ونحصل عليه ونتمتع به مثلكم ونظيركم ؟ !! .. ومع هذا فإن هناك سبباً ثالثاً ونعنى به الرحمة المسيحية !! ... لو أن واحداً غير بولس أبصر السجان يهم بقتل نفسه ، لسر كثيراً ورأى فى ذلك عدالة اللّه تجاه الشر والظلم والقسوة التى حاقت به وبزميله إلا أن بولس فى صرخته للرجل : «لا تفعل بنفسك شيئاً ردياً لأن جميعنا هنا» كشف عما فى المسيحية من رحمة وحب وإحسان وتسامح ، .. إنها ليست شيئاً أرضياً مما يموج به الجنس البشرى من أفكار وعواطف ، بل هى - أكثر من ذلك - إعلان سماوى مجيد عن حب اللّه وإحسانه العظيم للأثمة والأشرار والمتمردين والخطاة ! ما أكثر ما يفهم العالم تصرفنا الرقيق أكثر من مواعظنا البليغة،.. وما أكثر ما تترجم رسالة المنبر من خلال حياتنا وتصرفاتنا اليومية!!..
سجان فيلبى والطريق إلى الخلاص
رفع سجان فيلبى صوته صارخاً : « ياسيدئَّ ماذا ينبغى أن أفعل لكى أخلص » ( أع 16 : 30 ) .. وكان على بولس وهو يجيب على السؤال أن يصحح أمرين أولهما عبارة « ياسيدىَّ » إذ يلزم السجان أن يتحول عنهما ومن النظر إليهما إلى الرب والسيد الصحيح : « آمن بالرب » وبولس هنا أشبه بأليشع فى القديم الذى ذهب إليه نعمان السريانى ينشد خلاصاً من برصه ، ورفض اليشع أن يظهر مجرد ظهور أمام الرجل وطلب إليه أن يذهب إلى الأردن ليغتسل سبع مرات ، الأمر الذى أغاظ نعمان أشد الغيظ ، لتجاهل النبى أبسط قواعد الضيافة التى يمكن أن يظهرها المضيف للغريب الذى يسعى إليه من بلاد بعيدة ، ... ولكن أليشع كان عنده ما هو أهم من كل أساليب المجاملة البشرية ، ونعنى به خلاص الرجل ، الذى ينبغى أن ينسب إلى اللّه دون الأداة البشرية التى تتمثل فى مظهر النبى ويده على موضع الداء والمرض ! كانت أنظار سجان فيلبى وهو يحمل الضوء إلى داخل السجن فى فيلبى مسلطة على الرجلين اللذين أصبحا لا فى مركز المتهمين المهانين المتألمين ، بل فى مركز السيدين ، .. وحول بولس نظر السجان إلى الشخص الوحيد - دون سواه - الذى يمكن أن يعطى الخلاص ، ... وكان الأمر الثانى الذى يلزم تصحيحه هو « أن أفعل » فالمفهوم عند الكثيرين ، وإلى اليوم فى كل أجيال التاريخ أن الخلاص عند ملايين البشر، حسب تصورهم يتوقف على طقوس أو فرائض أو أعمال أو جهاد بأية صورة من الصور. « أن أفعل » . وقد بين الرجل أنه مستعد أن يفعل كل ما يطلب منه فى سبيل الخلاص ، ... وجاء جواب الرسول بعيداً جداً عما يتخيل الرجل أو يتصور على الإطلاق!! لقد أخرجه من منطق الفعل إلى منطق الإيمان ، .. وكأنما يقول له: إن أكبر خطأ يقع فيه الإنسان هو تصوره الحصول على الخلاص عن طريق فعل ما!!.. إن هناك فعلا ما لابد منه للخلاص، .. ولكنه ليس فعلى أو فعلك،.. بل هو ما فعله الرب يسوع المسيح على هضبة الجلجثة هذا هو فعله الكامل الذى لا يحتاج إلى أية إضافة بأية صورة من الصور،... قال كريسماس إيفانز رجل النهضات العظيم إنه وقف على باب السماء وهو يراقب دخول الناس،... ورأى رجلا يقترب ، وسأله الواقف على باب السماء : على أى أساس تستند فى الدخول ؟ .. وذكر الرجل - وكان فى مطلع حياته يبيع البيرة ، وكسب منها مكسباً طائلاً ، وقد دفع ذات مرة خمسين ألفاً من الدولارات لعمل خيرى - .. وذكر هذا الرقم أمام باب السماء ، ووجد مرفوضاً!!.. واقترب آخر وعندما سئل على أى أساس يدخل أجاب : على حساب دم الفادى الكريم ربى يسوع المسيح ، فلم يطلب منه أى شئ آخر !! ... فى الحرب الأهلية الأمريكية كان هناك واعظ معروف نشط يعمل بين المقاتلين ، وذات يوم كان فى طريقه إلى أحد المعسكرات ، فأوقفه الحارس وسأله عن كلمة المرور فأجاب بكلمة كانت مستخدمة فى اليوم السابق ، ولكنها تغيرت بعد ذلك ، وقال الجندى وهو يعرفه : ارجع فإن الكلمة تغيرت ، وإلا فالموت نصيبك ، ورجع الواعظ وعرف الكلمة ثم عاد ليقولها للحارس ، وإذ سمح له بالدخول قال هو بدوره للحارس : هل تعرف جواز السفر إلى السماء ، وما هى كلمة السر التى بها يمكن أن تدخل هناك !! .. وأجاب الجندى وكان رجلا مسيحياً مجدداً نعم أعرفها : « ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية » .. أجل !! ولهذا قال بولس للسجان : « آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص » ... ولعله ما تجدر الإشارة إليه أن حرف « الباء » فى الأصل اليونانى (Epi) يمكن أن يترجم بصورة أقرب وأدق إلى « على » ، .. وعليه فالكلمة « آمن بالرب » يمكن أن تكون « اعتمد على الرب يسوع المسيح » ... ولعلنا نستطيع أن نفهمها بالمعنى الذى فهمته فتاة صغيرة ، كان أبوها يعمل عملا فى قبو فى المنزل ، وطلبوا إليها أن تذهب إليه ، ولكنها وجدت السلم إلى القبو مرفوعاً ، .. فقالت لأبيها لا أستطيع أن أنزل لأن السلم غير موجود .. وقال لها الأب : اقفزى سأتلقاك !! .. وأجابت : ولكن الظلام شديد ولا أستطيع رؤياك !! .. فقال أبوها : ولكنى أراك أنا يابنتى وذراعاى مفتوحتان وواسعتان ومستعدتان للامساك بك عند النزول !! .. ولم تتردد البنت فى القفز لتجد الذراعين القويتين تحملانها فى سلام وأمان !! .. هذا هو المعنى المسيحى لإيماننا بالخلاص فى الرب يسوع المسيح !! .. لقد فعل هو كل شئ ، وخلاصنا من الألف إلى الياء يرجع إليه وإلى كفارته وشفاعته وضمانه الأبدى !! .. فقط « آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص » !! .. على أن الرسول بولس أضاف إضافة مثيرة جديرة بكل ملاحظة وانتباه ، فى القول « أنت وأهل بيتك » ، وليس معنى هذا أن خلاص البيت يأتى بالجملة نتيجة خلاص رب البيت ، فالخلاص دائماً إلى الأبد عملية فردية شخصية فى العلاقة بين الإنسان وربه ، .. لكن الرسول بولس - كالسيد المسيح سواء بسواء - يربط خلاص البيت بخلاص صاحبه إذ هذا امتيازه ومسئوليته ، وكما قال السيد لزكا : « اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضاً ابن إبراهيم » ( لو 19 : 9 ) ، قال بولس للسجان « فتخلص أنت وأهل بيتك » !! ..
سجان فيلبى والتمتع بالخلاص
لا تحتاج عملية الخلاص إلى زمن أو جهد كبير ، ومن ثم نلاحظ أن سبرجن وهو يتحدث عن السجان وخلاصه ، يصف مراحل حياته المتغيرة فى ساعة واحدة من الزمن من (1) وثنى وحشى إلى ، (2) باحث مجد إلى ، (3) مؤمن فــــرح ، إلى (4) مسيحى عامل .
ومن اللحظة التى قبل فيها المسيح تغير كل شئ ، فالجراح التى سببها للرسولين عاد فغسلها ونظفها ، والاضطهاد والقسوة استبدلهما بالترحيب والدعوة إلى بيته ، وتقديم المائدة الحافلة . والفزع والاضطراب والارتعاد إلى الدرجة التى فيها أوشك على الانتحار ، تحولت إلى الفرح المجيد العميق بالخلاص ، وهو يأتى إلى بيته بهذه البشرى ، ويسمع البيت رسالة الخلاص ، ويؤمن الكل بالرسالة الإلهية ، ويعتمد هو والذين له أجمعون ، ويلتحم البيت بصاحبه التحاماً كاملا فى الخلاص ، وفى المعمودية أيضاً ، التى تتم على هذا الأساس لتمتد إلى البيت المسيحى، وكما اعتمدت ليدية هى وأهل بيتها ، اعتمد السجان والذين له أجمعون ، ويكاد يكون غريباً وغير مألوف أن يقال إن جميع من كانوا فى البيتين كانوا كباراً بالغين ، ولم يكن فيهم صغير ، وذلك على مذهب المؤمنين بمعمودية الكبار ليس إلا ، ولكن النص الشامل عن البيتين فى فيلبى يشجع على امتداد المعمودية حتى إلى الصغار الذين ينتسبون إلى أباء وأمهات من المؤمنين .. ومن المثير أيضاً أن السجان تساءل عن فعل يفعله ، وجاءه الجواب خلواً من كل فعل ، وفى هذا رد على القائلين بضرورة ارتباط الإيمان بالأعمال ، إذ قال الرسول : « آمن بالرب يسوع المسيح » وإذا تم الإيمان وحدث الخلاص ، وولد الرجل جديداً ، جاء ثمر الإيمان نتيجة الخلاص ، لاسبباً أو تكميلا له ، وهذا برهان ناصع وقاطع على أن الخلاص الصحيح بالإيمان لابد أن يكون له الثمر الواضح الظاهر للجميع .
ونحن لا يمكن أن نختم قصة السجان دون أن نشير إلى أن بولس تمسك بحقه القانونى عندما رفض أن يخرج سراً من السجن ، كما طلب الولاة ذلك ، الذين دانوه وهو رومانى الجنسية وأذوه دون وجه حق ، ولو أن بولس رفع الأمر إلى القضاء على المعاملة غير القانونية ، لسبب لهم الكثير من المتاعب التى قد تبلغ حد فقدان وظائفهم أو ما هو أكثر من ذلك من أحكام . وبولس يعلمنا أن التمسك بالحق القانونى ليس مجافياً للأسلوب المسيحى أو ضده ، بل يبقى أمراً لازماً فى كثير من الأحايين إذا كان فى خدمة الحق ولمساندته ، مع ما ينبغى أن نتحلى به فى الوقت نفسه من المرونة التى جعلته يقبل الاعتذار من الولاة الذين أبدوا أسفهم على ما ارتكبوه من خطأ!! .. وخرج بولس من المكان بعد أن أسس كنيسة كتب لها من سجنه أجمل وأحلى رسالة عن الفرح المسيحى وحول المكدونى الصارخ - فى شخص السجــان - إلى الرجـــــل الذى قيل عنه : « ولما أصعدهمــــا إلى بيته قـــدم لهمـــــا مائــدة وتهلل مع جميع بيـــته إذ كان قـــــد آمن باللّه !! .. »
ابو ماضى- مراقب عام المنتدى
- عدد المساهمات : 440
تاريخ التسجيل : 23/05/2010
العمر : 51
مارجرجس والشهداء :: الثاتية :: المزامير :: السنكسار :: الثالثة :: أقوال الاباء :: الرابعة :: شخصيات من الكتاب المقدس
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى