مارجرجس والشهداء
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

شخصيه شمعى

اذهب الى الأسفل

شخصيه شمعى Empty شخصيه شمعى

مُساهمة  ابو ماضى الإثنين مايو 24, 2010 6:45 am


شمعي

"لأن الرب قال له سب داود"

(2صم 16: 10)



مقدمة

كثيراً ما يسأل المؤمن هذا السؤال: ما هي الحكمة في أن يرسل الله من ينغص حياتك، ويقلق راحتك، ويقلب أمنك، ويهدد سلامك؟!!.. وأنت تصرخ مرات بلا عدد أن يرفع الله عنك هذا الضيق أو الشوكة التي تقض مضجعك، وإذا بالمنغص يزداد إمعاناً في شره وظلمه واستبداده وطغيانه، وإذا هو رسول حكمة علوية لا يدرك كنهها إلا من تدرب على معاملات الرب، التي قد تبدو غريبة أو عجيبة لمن هو أقل فهماً وإدراكاً وتأملاً،… ظهر هذا المنغص في طريق داود، ظهر ظالماً قاسياً متشفياً، ولم يره أبيشاي سوى كلب ميت يسب الملك،… ولكن داود كان له رأي آخر، إذ أن شمعي لم يكن عنده مجرد كلب يقطع رأسه أو لسانه، بل هو رسول من الله جاء إليه في اللحظة الدقيقة ليتمم أمراً إلهياً، على الملك أن يقبله بكل خضوع وتسليم واتضاع،… إن شخصية شمعي تعطينا صورة واضحة لا نقف فيها عند الأسباب الثانوية الظاهرة، بل نتغور معها إلى أسباب أعمق خفية إلهية، ولذا يمكن أن نراه من جوانب متعددة على الصورة التالية.

شمعي المتعصب الأعمى

والتعصب الأعمى هو مفتاح قصة شمعي بن جيرا، لقد كان شمعي من عشيرة بيت شاول بنياميني، لا يمكن أن ينسى أنه ينتسب إلى الأسرة المالكة التي ضاع كرسي الملك منها، وأن داود حل محل شاول، وأن سبط يهوذا أخذ مكان الرئاسة من سبط بنيامين،.. والتعصب الأعمى مهما كان لونه وصورته، هو شر وباء يمكن أن يصيب فرداً أو جماعة، وأنواعه متعددة لا حصر لها،... ولكنها دائماً تخلف الهلاك والدمار وراءها،... فهناك التعصب القومي الذي يكاد يكون خلف أغلب الحروب بين الناس، والذي جعل أبا هنيبال القرطجني يطلب أن يقسم ابنه على المذبح أن يكره روما إلى الأبد،... والذي صنع العداء التقليدي بين اليهود والسامريين، والذي أنشأ أسطورة "ألمانيا فوق الجميع" وقاد العالم في القرن العشرين إلى الحربين العالميتين الأخيريتين بما تركتا من آثار رهيبة مدمرة،... وجعلت استيفن ديكاتور الضابط في البحرية الأمريكية أن يضع شعاراً أمريكياً بشعاً قائلاً: "أنا مع بلدي في الحق أو الباطل على حد سواء"... ولم يستطع أمريكي مسيحي أن يقبل هذا الشعار، فصححه: "أنا مع بلدي في الحق، غير أني أصححه عندما ينساق وراء الباطل"... سخر وينفرد هيلتباي من حماقة التعصب الأحمق، في قصة كتبها تحت عنوان: "صوت الله"... وفيها يتخيل ما يحلم به الناس، من أن جميع الأصوات محفوظة، وقد اخترع أحدهم آلة تستطيع بأن تأتي بهذه الأصوات من الماضي، وقد راق له أن يحضر أمام جمع يتكلم الإنجليزية، صوت المسيح،.. وعندما تكلم السيد حصلت همهمة وتذمر وغضب، لأن الصوت لم يتكلم بالإنجليزية، بل تكلم بالأرامية، كما كان المسيح يتحدث إلى معاصريه في تجسده على الأرض!!... وهناك التعصب العقائدي الذي عذب جاليليو الذي نادى بنظرية دوران الأرض حول الشمس، وأنها كروية، وذات مرة أرغموه أن يركع ويقول أن الأرض مسطحة، وركع وقام ليقول: ولكنها كروية،.. وسجن روجر بيكون لمدة عشر سنوات، وهو يقوم بأبحاثه في الطبيعة والكيمياء، وإذ عرض ما اكتشفه حكم عليه بالسجن بالزعم أنه يتعامل مع الشيطان،... وفي المجال الديني البحت كم ذهب العديد من الشهداء، ضحايا الحماقة والخرافة والجهل، وكم عانى لوثر في القرن السادس عشر، والميثودست في القرن الثامن عشر، ورجال جيش الخلاص في القرن التاسع عشر،.. وهل قرأت قصة ذلك الشاب الزنجي الذي طلب أن ينضم إلى كنيسة من كنائس البيض، أحرج الراعي، إذ أن حياة الزنجي لا تمنعه قط من الانضمام،... ولكن الراعي يعلم أنه سيثير ثائرة البيض إذا سمح له بهذا الانضمام،... وإذا أراد مخرجاً من حريته... قال له: لنصل ونتقابل بعد ذلك،.. وبعد شهور التقى به في الشارع وسأله: لماذا لم يأت إليه مرة أخرى؟.. وأجاب الشاب: لقد صليت وأعطاني المسيح الجواب... وقال الراعي: وماذا قال لك؟!! أجاب! قال لي لا تفزع لأني أنا واقف على باب هذه الكنيسة منذ عشر سنوات وأقرع ولم يفتح لي أحد الباب!!..

وهل نعود لنذكر الحروب الرهيبة التي قامت بين الأديان المختلفة، والاضطهادات الدينية البشعة في كل جيل وعصر، وليس فقط بين الأديان المختلفة، بل بين المذاهب المتعددة في الدين الواحد، وكلها لم تخرج إلا من التعصب الأحمق البغيض.. وربما إلى اليوم لم يعرف العالم كثيرين لهم الخيال الخصب الذي كان ليوحنا بنيان في سياحة المسيحي، والحرب المقدسة... وفي الحرب المقدسة يصور بنيان نفس الإنسان أشبه بالقلعة الحصينة ذات الأبواب الخمسة التي أطلق عليها، باب الأذن، وباب العين، وباب الفم، وباب الأنف، وباب اللمس، ويقصد الحواس الخمس في الإنسان، وعندما يأتي عمانوئيل ليفتح القلعة، يجد عدو الخير قد حصن باب الأذن مثلاً بالمتعصب الأعمى ومعه ستون من الجبابرة الذين لا يبالون بأحد على الإطلاق".. كان شمعي بن جيرا واحداً من هؤلاء المتعصبين التاريخيين بكل ما في كلمة التعصب من معنى...

شمعي الوضيع الخسيس

ربما ليست هناك فرصة يمكن أن تتعرف فيها على معدن الإنسان وطبيعته وصفاته، كما تراه في وقت المحن والآلام سواء بالنسبة له، أو بالنسبة لغيره من الناس،.. وقد كشف شمعي بن جيرا عن معدنه الخسيس الوضيع، عندما خرج داود في محنته القاسية هارباً من أورشليم أثر ثورة إبشالوم ابنه عليه،.. ولقد كان شمعي "قاسياً" في منتهى القسوة، إذ لاقى داود في أضعف لحظة من لحظات حياته، وإذا كان من المباديء الأساسية في المبارزة أو المصارعة أو الملاكمة التوقف عن المناضلة مع خسم ساقط إلى الأرض، أو سقط سلامه من يده،.. كما لا يعد شهماً أو رجلاً ذاك الذي يفرح أو يشمت ببلية آخر،.. فإن شمعي بني جيرا كان من ذلك النوع القاسي الذي فقد كل مرؤة أو شهامة، تجاه رجل منكوب في محنة من أقسى المحن التي مرت به في حياته!!... وكان شمعي إلى جانب هذا "جباناً" انتهز فرصة مرور داود أمام بحوريم وهي مدينة من مدن سبط بنيامين، وكان حريصاً أن تكون المسافة بعيدة بينه وبين أية محاولة لمطاردته، ليهرب إذا حاول من أحد من رجال داود القضاء عليه، ومن هناك ابتدأ يسب داود ويرمي عليه التراب والأحجار، وذلك منتهى الجبن والضعة،..

عندما هرب نابليون من جزيرة ألبا كتبت الصحف الفرنسية عنه "الوحش يهرب من ألبا"، وإذ اقترب من فرنسا كتبت "نابليون يهرب إلى فرنسا".. وإذ دخل فرنسا كتبت "الامبراطور يدخل البلاد".. على أنه كان كاذباً، إذ كان "كاذباً مفترياً" نسب إلى داود ما هو براء منه، بعلم الجميع، لم يكن داود بالنسبة لبيت شاول رجل الدماء "قد رد الرب عليك كل دماء بيت شاول".. بل بالأحرى الرجل الذي وقع شاول في يده مرتين، ولكنه رفض أن يمسه، ولم يكن داود أكثر من ذلك "رجل بليعال" الرجل الذي تحول عن الرب، وابتعد عنه، وعبد آلهة أخرى،.. كان وصفه بهذه الأوصاف غاية الظلم، وعكس الحقيقة على وجه كامل،... ولكن الإنسان المتعصب ليس هناك حدود لافترائه وكذبه،.. ولا حاجة إلى القول أنه إلى جانب هذا كله كان "غادراً" يطعن الملك الشرعي للبلاد في ظهره، يرحب بالثورة ويتمنى نجاحها، بل يؤكد هذا النجاح بدافع الرغبة الدفينة في قلبه للغدر والخيانة،... وهو في عرف أية قوانين شرعية خائن لمليكه، تحكمه قواعد الخيانة العظمى!!..

شمعي العصا الإلهية المستخدمة

على أن شمعي -مع هذا كله- يبدو في نظر داود شيئاً مختلفاً تماماً عن مجرد نظرة أبيشاي أو غيره من السائرين معه من الناس أو الجنود، لم يزد شمعي في نظر أبيشاي عن أكثر من مجرد كلب حقير ينبح، ويلزم إسكاته، أما في نظر داود فكان عصا الله المستخدمة لتأديبه، وهو لهذا يتصرف مع شمعي تصرفاً آخر، فهو "الصامت" الذي لا يشكو بل يقول بالحري: "دعوه يسب" ومع أنه كان يملك أن يتكلم، ومع أن الذين حوله كانوا يملكون ما هو أكثر من الكلام، لكنه مضى في طريقه كأصم، ووضع رأسه ووجهه في التراب، ولعل هذا أفضل ما يمكن أن يفعله الإنسان، عندما يلتقي بالأحمق الذي لا يحمل أن نرد عليه حتى لا نتساوى معه في الحماقة،... ولعلنا في الصمت نمتد إلى آفاق أبعد، وراء ذاك الذي كان أفضل وأعظم من داود: "ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه".. "وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء"... وهنا يحق القول إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب!!... وهو "المعترف بالخطأ" وليس بما يزعمه شمعي، فهو بريء من هذا كله، ولكن الضمير في تلك اللحظة كان له حسابه العميق معه،.. إن الذي يظهر أمامه في الطريق، ليس شمعي بن جيرا، بل آخر اسمه، أوريا الحثي ودم أوريا يصرخ في وجهه، ومع أنه يعلم علم اليقين بأن الله غفر خطيته، إلا أن لطمة الضمير كانت تصفعه في تلك اللحظة على وجهه، وهنا لابد من السؤال: ألم يتب إلى الله؟؟ وألم يصرخ مزموره العظيم بهذه التوبة التي قبلها الله، ورفع عنه إثمه وخطيئته؟؟ فهل كان غفران الله كاملاً وشاملاً، أم أن الغفران الإلهي مجزأ ومحدود؟؟.. لا شبهة في أن غفران الله كامل وشامل، ولكن هذا الغفران الكامل لم يمنع الرسول بولس أن يقول بعد سنوات طويلة من غفران الله: "أنا الذي كنت مجدفاً ومضطهداً ومفترياً ولكنني رحمت إذ فعلت بجهل في عدم إيمان" وقد تعقبته ذكريات الخطية لا لتقلق مضطجعه، بل لكي تعلمه الاتضاع، وإدراك شر الخطية وبشاعتها، فهي حاجز واق يكشف له الضعف البشري يوم تتخلى النعمة الإلهية عن أي إنسان على ظهر هذه الأرض"!!..

وها نحن نرى هنا داود في كل خضوع وتسليم واحترام لمشيئة الله وقضائه وإرادته، وهو يضع "التفسير الصحيح" لتصرفات شمعي،.. وهنا يختلف داود مع أبيشاي -وقد سبق له الاختلاف- في مفهوم العناية عندما عبرا إلى شاول النائم والذي سقط تحت يد داود، وأراد أبيشاي أن يأذن له داود بالقضاء عليه بضربة واحدة، معتقداً بأن الرب قد أوقعه في يده، ولكن داود رفض هذا التفسير، ورأى في الأمر -بالعكس- امتحاناً من الله، لأنه لا يستطيع أن يقتل مسيح الرب ويتبرأ،..

وهنا لا يرى أبيشاي أيضاً إلا الصورة البشرية، كلب ينبح، ومع أن الكلب الذي ينبح يعتبر كلباً حياً، إلا أن أبيشاي يراه أقل من ذلك، إذ هو كلب ميت،.. أما داود فإنه يرى صورة أخرى تختلف كل الاختلاف، إذ يراه عصا الله المؤدبة، ولتكن هذه العصا ما تكون، لكن داود يرى يد الله خلفها، وهنا نحن نقف أمام حقيقة من أضخم الحقائق الكتابية، ألا وهي الأسباب الثانوية والأسباب الأصيلة، أو الأسباب الظاهرة، والأسباب الخفية،... وإذا كانوا يقولون إن في المحيطات والبحار يوجد تياران: التيار الظاهري الذي يدفع الأمواج ويرفعها إلى أعلى أو أسفل، والتيار الخفي العميق الذي يدفع المياه، وهو التيار الصحيح الحقيقي الذي يحرك المياه ويسيرها...

كان إبشالوم وأخيتوفل وشمعي بن جيرا الأسباب الثانوية، الظاهرة، لكن السبب الحقيقي هو ما قاله الرب على لسان ناثان: "لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس"... لقد عفا الله عن داود كشخص، ولكنه يعاقبه ويؤدبه كقائد جلب عثرة كبيرة أمام الشعب، وجعل أعداء الرب يسخرون،.. وإذا لم يعاقب الله العثرة، فسيستهين الجميع بالخطية ويشربون الإثم كالماء،.. إذا أصيب الإنسان بمرض الجدري، وشفى منه، ستنتهي آلامه وأخطاره، لكن آثاره ستبقى في الجلد، وسيغفر الله لكل إنسان جاء إليه تائباً، لكن الجسم الذي حطمته الخطية، لا يمكن أن يعود -بعد أن أوغل الإنسان فيها- سليماً كالذي عاش حياته عفا نقياً من بدء الحياة!!.. ومن اللازم أن نعلم أن الله يستخدم جميع الوسائل والناس، ويسيطر على الخير والشر، وعلى الأخيار والأشرار لإتمام مقاصده، ومن القديم قال يوسف لإخوته: "أنتم قصدتم لي شراً وأما الله فقصد به خيراً"... وقال شمشمون في أحجيته المعروفة: "من الآكل خرج أكل ومن الجافي خرجت حلاوة".. وقال بولس: "ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده".. كان يهوذا الاسخريوطي -وهو يتمم أبشع جريمة في التاريخ- كان يتمم هذا وهو لا يقصد مشورة الله المحتومة التي لابد أن تكون!!..

قال أحدهم ربما لم يكن في ركب داود في ذلك اليوم من استطاع أن يفهم عمق التفسير لكلمات داود سوى ناثان النبي،.. ومن أعظم الأمور عند المؤمنين قدرتهم في التعمق والوصول إلى الأسباب الحقيقية لمعاملات الله معهم في الحياة، بل أن التغور إلى الأسباب الحقيقية سيرفع عن المرء الكثير من الثقل والمرارة، وسيفتح أمامه طريق الرجاء والأمل والانتصار على المحنة والمعاناة،.. أن تتحول من شمعي إلى الله، وأن يختفي الإنسان مهما كان نصيبه أو مسئوليته، وأن نرى الله، ولا شخص غير الله، سنجد السبيل إلى ما هو أفضل وأسمى وأعظم أو كما قال داود في مرة أخرى: "قد ضاق بي الأمر جداً فلنسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة ولا أسقط في يد إنسان"... لقد اعتنق داود فلسفة طيبة تجاه تصرف شمعي، لقد هون الأمر على نفسه بصورتين: الصورة الأولى إذ قارن بين عمل شمعي وعمل إبشالوم، فإذا كان إبشالوم قد أجاز لنفسه وهو ابن داود أن يثور على أبيه، فكم بالحري هذا البنياميني البعيد، وكانت الصورة الثانية أبعد وأعمق إذ هي صورة الله، الذي سمح لشمعي أن يفعل هذا، ولا توجد بلية في الأرض إلا والرب صانعها، بهذا المعنى البعيد والعميق، إن النظر إلى الإنسان مرات كثيرة انتهى بالناظر إلى طريق مسدود، لكن النظر إلى الله دائماً يتفجر بالرجاء والأمل، كان داود دائماً يعلم أن الله لا يحتقر البتة القلب المنكسر والروح المنسحقة، ولأجل ذلك غطى رأسه ومشى حافياً ذليلاً في ذلك اليوم واستسلم باليقين لمراحم الله الصادقة والكثيرة، وهو يدرك تماماً أن الله لا يسمع سب الرجل الكاذب المفتري المسيء وهو شديد الأمل أن الله لا يرضى بالافتراء والتجني والكذب،.. هل نعي هذا الدرس من داود، أو بالأفضل والأعظم من ابن داود الذي قال فيه الرسول بطرس: "لأن هذا فضل إن كان أحد من أجل ضمير نحو الله يحتمل أحزاناً متألماً بالظلم لأنه أي مجد هو إن كنت تلطمون مخطئين فتبصرون بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون فهذا فضل عند الله لأنكم لهذا دعيتم فإن المسيح أيضاً تألم لأجلنا تاركاً مثالاً لكي تتبعوا خطواته الذي لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر الذي إذ شُتِمَ لم يكن يَشتِم عوضاً وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضي بعدل"؟!..

شمعي المنافق

قضى على الثورة في مهدها، وأدرك شمعي أنه قامر وراهن على الفرس الخاسر، وأسرع لمواجة الموقف فجمع ألفاً من البنياميين ونزل مع رجال يهوذا للقاء الملك، وسقط على وجهه أمام داود واعترف بإثمه وافتراءه، وطلب العفو والصفح والغفران، وهنا يظهر مرة أخرى أبيشاي طالباً القضاء عليه،.. ولكن الملك كان في تلك اللحظة مأخوذاً، مشدود النفس، لا يرغب في توسيع الجراح أو مدها، أو إراقة دماء أخرى بعد مصرع ابنه، فرفض أن يرى نقطة أخرى من دم تراق في يوم النصر، وحلف للرجل ألا يقتله، خاصة وهو لا يأتي بمفرده، بل يأتي بأسلوب ماكر بألف رجل بنياميني معه،.. ومع أن انبطاحه أمام الملك، واعترافه الكامل بإثمه، وطلبه العفو يمكن أن تكون هذه أركان توبة صحيحة لو أنه كان في الداخل، كالخارج قد تاب حقاً، ولم تأت التوبة نتيجة خوفه من الملك وليس حباً فيه، أو رغبة في الولاء له،.. إن توبة شمعي في تصورنا أشبه بتوبة عيسو التي لم تأت إلا لإحساس الندم على الخسارة التي ألمت به لفقدان البركة: "فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع ".. ومع أن داود وعده، وحافظ على وعده معه طيلة حياته، وعفا عنه بقسم أمام الرب...

إلا أن السؤال مع ذلك يبقى: ولماذا لم ينس داود مع عفوه هذا عمل الرجل، وذكره لابنه سليمان وهو في ضجعة الموت، طالباً منه أن يتصرف معه بالحكمة، وبالكيفية التي تجعله يحدر شيبته بالدم إلى الهاوية؟؟.. أهو الضعف البشري الذي فرق بين داود في العهد القديم وابن داود في العهد الجديد؟؟ وأن المسيح ارتفع بنا إلى صفح غير المحدود والشامل والكامل، إذا قورن بصفح العهد القديم المحدود والجزئي والناقص؟!!.. أم هي التفرقة التي يدعو إليها بين الإساءة الشخصية إلى داود، والإساءة إليه كمسيح الرب،.. وأنه إذا كان يملك العفو عن الإساءة الشخصية التي توجه إليه كشخص، فإنه لا يملك العفو عن الإساءة التي وجهت إليه كمسيح الرب،.. وهو يطلب أن يتعامل معه بالحكمة التي لا تجعله ينسى أنه كيوآب ثار على الملك الشرعي الممسوح من الله، وعقابه حسب الناموس الموت؟!!.. أم أن الوصية كانت منصرفة أساساً إلى خطورة الرجلين على سليمان كملك، وأنهما أشبه بالحية التي لا يؤمن جانبها، مهما كان مظهرها أملس ناعماً، وما أسرع ما تلدغ متى واتتها الفرصة، وعلى سليمان أن يتعامل معها بكل حكمة وفطنة كما يتعامل من الأفعوان الخطر؟!!..

قد يكون الجواب في واحد من هذه، أو فيها جميعاً معاً،.. لكننا نعلم -على أي حال- أن الرجل كان مرائياً منافقاً يبطن غير ما يظهر، وهو على استعداد الطاعة فقط في الظاهر دون الخفاء، وقد أطاع كارهاً ما أمره به الملك سليمان في البقاء في أورشليم دون الخروج منها، حتى اضطر إلى الخروج بحثاً عن عبدين هاربين، ولم يدر أنه هو كان عبداً هارباً من وعده، والرياء أو النفاق لابد له من عقاب طال الزمن أو قصر!!.. وانتهت قصة شمعي بقتله، وحصد الرجل ما زرع، وكان لابد أن يكون الحصاد من نفس الزرع لأنهم لا يمكن أن يجتنوا التين أو العنب من الشوك أو الحسك!!... ولعل القصة بعد هذا كله ترينا أن الخطأ -مهما كان يسيراً أو جسيماً- لا يمكن علاجه بالنفاق والرياء، بل على العكس سيتحقق الخلاص بالاتضاع والتسليم والصدق والصراحة،.. لقد كانت خطية داود أشنع بما لا يقاس من خطية شمعي، وقد قبل داود من الله ما فعل به شمعي بكل صبر وتسليم وكأنما يقول: "صمت لا أفتح فمي لأنك أنت فعلت" ورفع الرب عن كاهله المحنة القاسية: "لأنه إن لامتنا قلوبنا فالله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء". وعلى العكس فليس أقبح أمام الله من الرياء، وحق للسيد المسيح أن يصف نهاية العبد الرديء الشرير الذي يضرب رفقاءه بالقول: "يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره، وفي ساعة لا يعرفها فيقطعه ويجعل نصيبه مع المرائين" وهكذا كان نصيب شمعي بن جيرا كواحد من أظهر المرائين وأخسهم وأوضعهم في كل التاريخ!!..






ابو ماضى
ابو ماضى
مراقب عام المنتدى
مراقب عام المنتدى

عدد المساهمات : 440
تاريخ التسجيل : 23/05/2010
العمر : 51

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى