الأصم والأعقد
مارجرجس والشهداء :: الثاتية :: المزامير :: السنكسار :: الثالثة :: أقوال الاباء :: الرابعة :: شخصيات من الكتاب المقدس
صفحة 1 من اصل 1
الأصم والأعقد
الأصم والأعقد
«ورفع نظره نحو السماء وأنَّ وقال له إفثا. أي انفتح. وللوقت انفتحت أذناه وانحل رباط لسانه وتكلم مستقيمًا» (مر 7 : 34،35)
مقدمة
لا أعرف أن هناك مثيلاً لهذه القصة في الكتاب المقدس كله، ويكفي أن تعرفوا الفارق بينها وبين غيرها من قصص الشفاء، فقد كانت عادة المسيح أن يشفي الإنسان في الغالب وسط الجماهير أو على مقربة منها، ولكن المسيح وجد هذا الإنسان بين الجماهير، فأخذه بعيدًا عنها وهناك صنع المعجزة، وكان الرجل بطبيعته أصم أعقد، أي لا يسمع ولا يتكلم ولم يستعمل المسيح معه سوى كلمة صغيرة أخيرة، ولكن الجزء الغالب والأكبر كان بغير كلام، إذ كان بالحركة واللمس، إذ رفع السيد نظره نحو السماء، وما من شك في أن الرجل الآخر رفع نظره أيضًا، ولمس المسيح الرجل في أذنيه وفي لسانه، إذ كان يريد أن يرفع قلبه وإيمانه نحو السماء، قبل أن يتكلم كلمة واحدة، وقد فعل، وبعد ذلك جاء الكلام... قصة غريبة نادرة، ولكن السيد يستطيع أن يتعامل مع كل واحد منا، حتى ولو من غير كلام، ويستطيع أن يوجه أفكارنا في صمت، من الواضح أن هذه القصة تكشف لنا العناصر الضرورية للشفاء الروحي والجسدي ولذا يحسن أن نراها فيما يلي :
الشفاء والعزلة
تقول القصة الكتابية : «وجاءوا إليه بأصم أعقد وطلبوا إليه أن يضع يده عليه فأخذه من بين الجمع على ناحية» (مر 7 : 32 و 33).. وهو عين ما فعله مع الأعمى الذي أخرجه إلى خارج القرية، كما جاء في الأصحاح الثامن في مرقس، ولعل السؤال الآن هو لماذا فعل المسيح هكذا!!؟ نحن لا ندرك تمامًا ما المقصود من ذلك، ولكننا نلاحظ أن العزلة في حد ذاتها مرات كثيرة ما تكون الخطوة الصحيحة نحو الشفاء، وفي كثير من الأمراض يبدأون أولا بعزل المريض خشية العدوى أو ضعف المقاومة، ومهما يكن من الأمر فليس أجمل من أن يقال عن المسيح إنه «أخذه من بين الجمع على ناحية» وقد تبدو هذه الكلمة سريعة وبسيطة، لكنها في الواقع عميقة وخصبة!! والمسيح يفعلها بأساليب مختلفة في الحياة، فقد يفعل هذا معنا عن طريق «الذكريات الحلوة»... عندما بدأ روبرت موفات حياته كشاب بدأها بحارًا، ونحن نعلم أن حياة البحار يمكن أن توصف بأي شيء خلا أنها متدينة، ولكن روبرت موفات، وهو يركب المركب لأول مرة، انتحت به أمه ناحية قبل أن يصعد إلى ظهر المركب وقالت له : «الآن يا روبرت دعنا نقف وحدنا بضع دقائق، فإني أريد أن أطلب منك معروفًا، قبل أن نفترق!!؟ ... ما هو يا أمي!!؟ أريد أن تعدني أولا بأنك ستفعل ما سأطلبه منك!!؟ لا أقدر أن أعد يا أمي قبل أن أعرف طلبك!! ... وهل تفتكر يا روبرت أنني أطلب أمرًا في غير محله، وليس فيه خير!! ألست أحبك!!؟... إني أعرف ذلك يا أمي، ولكني لا أحب أن أعد إلا وأنا قادر على إنجاز الوعد.. ويقول روبرت موفات : «وخفضت عيني إلى الأرض وأنا صامت محاولاً أن أقاوم عواطفي الثائرة، ثم رفعت عيني فرأيت الدموع تنحدر على خديها فخنقتني العبرات ولما صرت قادرًا على الكلام قلت لها : أطلبي ما تشاءين يا أمي فإني سأجتهد أن أفعل كما تطلبين!! فقالت : إقرأ يا ابني الكتاب المقدس بانتظام كل يوم!! فقاطعتها قائلاً : ولكنك تعلمين يا أمي أني أقرأ في كتابي كل يوم!! ولكنك لا تقرأ بانتظام كما يجب أو كواجب عليك أنت مدين به لله ولنفسك.. فوعدها!! وإذ ذاك أجابت : الآن أعود إلى البيت بقلب مسرور، اقرأ كثيرًا في الإنجيل، الإنجيل المبارك فلا تضل الطريق، وان كنت تصلي فالله معك!! وقال موفات : لقد فارقت أمي إلى مركز عملي ثم إلى أماكن قريبة وبعيدة، حيث لم أجد هناك كنيسة أو مدرسة أحد قريبة مني، أو إنسانًا يهمه أمر الدين ولكنني لم أنس وعدي لأمي!!
وقد يأخذنا المسيح على ناحية عندما يعزلنا المرض أو الضيق أو الحاجة، وهو يرغب في أن يختلي بنا لأنه يريد أن يرفع عنا عاهة أو ينتزع من حياتنا مرضًا، أو يسيطر على علة تمكنت منا، وهو يفعل هذا في عمق الهدوء والسكون والتأمل، عندما لا يكون هناك من الجمع من يعطل شركتنا معه أو تأملنا فيه، وقد نأتي إلى منعطف الحياة مع المسيح عندما يصيبنا الزهد أو يأخذنا الملل، عندما تبدو الحياة وكأنما هي سراب لا معنى له، أو فقاعة من الهواء كما ألف أحد الفلاسفة أن يطلق عليها، ومهما يكن الدافع إلى العزلة، فإنها ضرورية لحياتنا ولشفائنا من أمراض كثيرة، ومن العجيب أنها الشيء الذي فعله الله في حياة أبطاله العظام، عندما أراد أن يحررهم من كثير من الأمراض أو الأدواء، التي كانوا لا يدركون أنهم في حاجة إلى التحرر منها، ونحن لا نستطيع أن نفسر حاجتهم إليها قبل أن نعلم أن موسى عاش أربعين سنة في البرية، وكان من المقصود أن هذه الأربعين عاماً دفنت رجولته العظيمة في رمال الصحراء وإن كان الواقع أنها دفنت هناك كبرياءه، وغروره، وإحساسه الذاتي بنفسه، وأخرجت من أعماقه مصر بكل ما ترسب منها فيه، وكانت تلك أمراضه التي كان ينبغي أن يتخلص منها قبل أن يعرف طريقه إلى الحياة الصحيحة وخدمة الله، وكان لابد لداود أن يعيش سنوات طويلة في البرية، وهو صبي يافع أو طريد من شاول، وأدخله الله إلى المنعطف في الشركة معه ليصلح أن يكون الرجل الذي كان يرى نفسه أنه لا يزيد عن برغوث أو كلب ميت أو لا شيء على الإطلاق كدودة حقيرة، وهكذا أبطال الله ينتزعون من بين الناس، ويأخذهم إلى المنعطف قبل أن يحل عقدة لسانهم أو يفك أسر آذانهم أو يهيئهم أو يهييء لهم الحياة الصحيحة السليمة المنتصرة على الضعف والمرض!!
الشفاء والنظرة
على أن المسيح لم يقصد أن يوجد في حالة عزلة فحسب. بل قصد أن يحوله من العزلة عن الناس، إلى النظر إلى السماء، ولأجل ذلك رفع المسيح عينيه ونظر إلى السماء، ولا شبهة في أن الرجل فعل الشيء ذاته، فرفع نظره هو أيضًا إلى فوق، وقد قصد السيد المسيح أن يربط نظر الرجل بالسماء، كان الرجل بطبيعته معزولاً عن الناس، وكان لا يستطيع أن يتفاهم معهم أو يتفاهموا معه، فإذا تكلموا إليه لا يسمع وإذا حاول أن يتكلم إليهم عجز، لكن الأصم الأعقد مع ذلك يستطيع أن يتكلم إلى الله، وينصت إلى صوت السماء، فكثير ما يصعب علينا التفاهم مع البشر،... وقفت إمرأة أرادت أن تعبر الشارع المزدحم بالمرور، وفي حيرتها تقدم إليها شاب، وقال : هل أعبر معك يا سيدتي، فقالت له : نعم.. ووضعت ذراعها في ذراعه، وفي عبورهما تعرضا للخطر، ولكنهما وصلا سالمين إلى الجانب الآخر، وقالت السيدة للشاب : يا بني إنك لا تستحق أي شكر لأنك كنت كالأعمى في عبورك، وكادت حياتي تضيع معك. وقال الشاب : نعم يا سيدني إنني أعمى ولأجل ذلك طلبت أن أعبر معك!!... عندما تخيب نظرتنا في الناس، سنجد هناك النظرة الصائبة التي لا يمكن أن يخيب منتظروها، وهل يمكن أن ننسى أن الواعظ الشهير اسبرجن جاء إلى المسيح نتيجة عظة لواعظ بسيط كان يتحدث عن آية إشعياء القائلة : «التفتوا إلي وأخلصوا...» (إش 45 : 22) وقد حدث هذا في يوم بارد ملأت كرات الثلج فيه أزقة وطرقات مدينة كلوشستر في انجلترا، وكان هناك شاب يعدو وسط الشوارع المقفرة ليحتمي من لفحات الريح، وليختبيء من الثلج المتساقط، وحدث أن ساقت العناية ذلك الفتى إلى كنيسة في تلك الناحية فدخلها وجلس على مقعد في إحدى الزوايا مصغيًا إلى العظة، وبعد نهاية الخدمة جاء الواعظ ليصافح الفتى وقال له : يظهر أنك شقي يا بني!! وستبقى شقيًا إلا إذا نظرت إلى الله وتطلعت إليه، وقد فتحت هذه الكلمات عالمًا جديدًا إذ انتقل الفتى لساعته من الظلمة إلى النور، ومن الموت إلى الحياة، ومن السبات الروحي إلى الأشراق السماوي!! ومن يزور تلك الكنيسة المنعزلة في كلوشستر يجد لوحة معلقة هناك تشير إلى تجديد اسبرجن وفيها يوضح كيف تغيرت الدنيا في نظره، ولطالما هتف اسبرجن قائلاً : إني أتطلع إلى طبيبي ليشفيني، كما أتطلع إلى المحامي لينصحني، وإلى البقال ليزودني بحاجاتي، ولكني أتطلع إلى إلهي دائمًا في سمائه، فهو يرنو إلى ويعطيني القوة، ويدخل في شركة معي، ولا يتركني وحيدًا في هذه الدنيا أبدًا!!
«أرفع عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني، معونتي من عند الرب صانع المسوات والأرض» (مز 121 : 1 و2) قد تتعطل بعض حواس الإنسان، فلا يستطيع أن يسمع أو يتكلم، ولكن روحه تستطيع أن تجد طريقها إلى عرش الله في السماء، وهي لا تحتاج إلى أكثر من نظرة متطلعة إلى الأعالي في صبر وانتظار!!
الشفاء والأنة
على أن السيد المسيح لم ينظر فقط بل أنّ أيضًا، وهل يمكن أن يرى هذا المنظر المؤلم دون أن يمتليء بالأنين، لقد رأى الرجل صورة للنقص الإنساني المروع، والعجز الجسدي الذي جلبته الخطية، هذا الرجل قد فقد حاستين أساسيتين في الإنسان : حاسة السمع، وحاسة النطق، ومن ذا الذي يدرك مدى ما كان يعانيه، وهو أصم، أعقد، يتكلم الناس فلا يسمع، يحاول أن يكلمهم فيعجز عن الكلام، هل تدرك مقدار ما كان يعاني بيتهوفن عندما فقد السمع كله في سنيه الأخيرة من الحياة، وهو الرجل الذي تعود أن يتنبه لزقزقة العصفور، ولخفيف النسيم، ولتدفق الجداول، لقد قال هو عن نفسه : إنه انتفع بالصمم حتى لا يسمع لغو الحديث بين الناس، ولكنه مع ذلك أغلق على نفسه سجنًا كبيرًا، وهو لا يسمع، ولا يستجيب لكلام الناس أو حديثهم أو منطقهم، ومع أن أديسون المخترع العظيم، انتفع إلى حد ما، بثقل سمعه، إلا أنه قال في أخريات حياته : إنه لم يسمع شدو عصفور بعد الثانية عشر من عمره، وما يقال عن السمع، يقال أيضًا عن الكلام، عندما يعجز المرء عن التعبير عما في داخله أو عما يعانيه، فإذا كان فقد السمع والقدرة على الكلام كارثة لأي إنسان، فإن الأمر أقسى وأشنع وأشد في المجال الروحي للحياة البشرية، قال السيد المسيح : «من له أذنان للسمع فليسمع» (مت 11 : 15) وليس لكل إنسان أذن ليسمع، ولكن أقسى مآسي الإنسان أنه عاش طوال التاريخ لا يستطيع أن يسمع نداء الله والحياة والمصير والأبدية، وقد أصم أذنيه عن الحق والخير والحب والإحسان والخلاص، وها الوعاظ والمبشرين والرعاة وخدام الله يصرخون ليلاً ونهارًا، ولكن هل سمع الناس واستجابوا لمجد الله وخير نفوسهم، أن النتائج المحسوسة الملموسة تبين لماذا ضاع الإنسان رغم كل تنبيه وزجر!! لأنه أصم عن كلمة الحياة الأبدية التي أرسلها الله إليه! ومن المؤسف أنه إذا كان جهاز الاستقبال عند الرجل عاطلاً، فإن جهاز الإرسال بالمثل، لا يستطيع أن يرد على كل نداء، أو يجيب على كل حديث، لم يكن الرجل أصم فحسب بل كان أعقد أي أخرس لا يستطيع الكلام. ولعله مما تجدر ملاحظته أن مخترع الراديو ومحطات الإذاعة في كل مكان جاء اختراعه وليد اكتشاف أن في رأس الإنسان محطتي استقبال وارسال، فنحن نستقبل بأذاننا الحديث كما تستقبل محطات الإذاعة ما يأتيها من أطراف الأرض، ثم تعود لترسلها إلى كل مكان، كما نرسل بألسنتنا الكلام إلى الآخرين، لكن الأصم الأعقد تعطلت فيه محطتا الاستقبال والإرسال، ومن المؤسف جدًا أن تتعطل هاتان المحطتان روحيًا في حياة أي إنسان على الأرض! وهل يمكن أن يرى المسيح مثل هذا العطل في الحياة دون أن يئن ويرفع نظره إلى السماء!!.
الشفاء واللمسة
على أن الحلقة الأخيرة في الشفاء كانت اللمسة : «ووضع أصابعه في أذنيه وتفل ولمس لسانه» (مر 7 : 33) وكم تتحدث هذه اللمسة عن معان عديدة، فهي أولاً اللمسة الرقيقة التي وصلت إلى الأذنين، وإلى اللسان، وهي تكشف عن رقة المسيح البالغة، لقد أراد أن يتخاطب مع الرجل عن طريق حاسة اللمس التي لم تتعطل بعد، لكي يؤكد له إحساسه العميق بتعاسته وحاجته ونقصه، وما من شك في أن هذه اللمسة هزته من الأعماق، إذ هي أشبه بالتيار الكهربائي الذي يدخل الجسم ويسرى في أعماقه.. قيل عن شاب إنه كان في أقسى لحظات حياته، إذ كان فاشلاً وخائرًا يوشك أن ينهار، وفي تلك اللحظة التعسة، التقى بالواعظ المشهور هنري دراموند، ولم يفعل دراموند أكثر من أنه مد يده ومس بها كتف الشاب، ونظر إليه بعينين تفيضان عطفًا وحنانًا، وغيرت اللمسة الشاب، وقال فيما بعد إنه نسى في الحياة أشياء كثيرة، ولكنه لم ينس لمسة السيد هذه، وظل وقعها على كتفه ونفسه بعيد الأثر، والمسيح في كل وقت يريد أن يؤكد لنا لمسته الرقيقة الممتلئة بالحنان والحب والعطف.
على أن اللمسة كانت أكثر من ذلك، إذ كانت اللمسة القادرة المعجزية العجيبة، فهذا الرجل لو أننا قدمناه لأطباء العالم لربما أجروا أبحاثًا عديدة عليه، ليعلنوا في نهايتها فشلهم ويأسهم، وأنه في أفضل الحالات، يمكن أن يكون نموذجًا يهتدون به، لمكافحة علة قد وجدوا بارقة أمل، فإنهم قد يخضعونه لعمليات جراحية متعددة، ربما تعطي نتائج محددة، وإذا أعطت فبعد زمن يطول أو يقصر، لكن لمسة المسيح شيء يختلف تمامًا عن هذا كله، إنها تنجز كل شيء بسرعة البرق. إنها لا تعرف التغيير المجزأ أو التغيير التدريجي، إذ هو يغير وينقذ ويخلص إلى التمام، إن القصة تعلن لنا أنه : للوقت انفتحت أذناه وانحل رباط لسانه وتكلم مستقيمًا» (مر 7 : 35) كانت اللمسة مزدوجة التأثير، إذ أعطته السمع، والنطق حقًا، وهي إلى اليوم تفعل هذا، إذ أنها تفتح الأذن، في لمح البصر ، يدرك الإنسان ما كان لا يستطيع إدراكه أو الوصول إليه، وعندنا ملايين الأمثلة في كل جيل وعصر، لأولئك الذين وصل المسيح إلى سمعهم، فتغير كل شي ء في حياتهم!!
كان هناك شاب أمريكي في أواخر القرن الماضي، وقد كتب قصته مثلاً لما يمكن أن يفعله المسيح في حياة كل واحد منا، كانت أمه تقية، وكانت تصلي على الدوام من أجله، ولكنه كان أصم عن كل نصائحها ومواعظها، وقد أمعن في الضلال والشر، حتى أصبح ملحدًا يفاخر بإلحاده، وقد نزع إلى كل موبقة وشر، وكان لا يفيق من سكره وعربدته، تزوج وأنجب طفلاً جميلاً، سر به، وكان الطفل البريء هو زهرة البيت وجماله، وكان في الثالثة من عمره عندما أصيبت أمه بمرض قاسي، أخذ يتهدد حياتها، استولى الضيق على الزوج، وضاق بحاله، ومرض زوجته وقرر أن ينتحر تخلصًا مما هو فيه، كان يعمل مهندسًا، وكان مركز عمله على شاطيء الباسيفيكي في الولايات المتحدة، ورأى أن يلقي بنفسه في مياه المحيط، وبينما هو يهم بفعل ذلك تذكر ابنه، الذي إذا انتحر سيتركه يتيمًا يعاني ما يعانيه كل يتيم صغير، فقرر أن يحمله معه، ليغرق معه حتى يموت كلاهما معًا، وهو هنا يتحدث بعمق الاختبار، لقد ذهب إلى مكان بعيد في الميناء وهم بأن يقذف بنفسه وقد أمسك بكلتا يديه بابنه، ولكن قدميه تسمرتا، غادر المكان مرة ومرات، وفي كل نقطة يذهب إليها لا يجسر على فعل ما كان مقدمًا عليه. أخيرًا عدل عن الفكرة، وأخذ ابنه إلى البيت، ودخل إلى مكتبه ليصرخ لله ليقول له : يقولون إنك موجود، وإنك قادر على كل شيء، فإذا أنقذتني وشفيت زوجتي، أعود إليك وأكرس حياتي لك، وآتاه الله بما سأل وإذا بالأصم عن كل نداء من الله، يتحول إلى الإنسان الذي يسمع صوت الله، وصار الأعقد يتكلم عن فضل الله فيما حدث معه، وقد قال : «إني الآن أجد لذة عظيمة في مقابلة كل من أعرفهم من الملحدين لأخبرهم أنه يوجد إله، ولأحدثهم عما فعل هذا الإله لنفسي، وبعد ذلك اهتدت زوجتي إلى الله، فأصبحنا كلانا عاملين نشطين في جيش الخلاص، وما أعظم التغيير الذي حدث في بيتنا!! حقًا إن لنا أبًا رحيمًا محبًا يأتي علينا بصبر إلى هذا الحد العظيم.
والآن أيها القاريء عليك أن تعلم أن الكلمة الأولى التي استمعها ذلك الأصم القديم كانت كلمة المسيح، وصوته الرقيق، وكان إنسان يفتح المسيح أذنه لابد أن يسمع صوته، قبل أن يسمع نداء العالم أو الجسد، وما أحلاه من صوت، لا يملك المرء معه إلا أن يقول : «تكلم لأن عبدك سامع»، (ا2م 2 : 10) وسيستمع الإنسان بالأذن المفتوحة إلى صوت الحق، والهداية، والإرشاد، بل دائمًا يقول : «يارب ماذا تريد أن أفعل» (أع 9 : 6(0
على أن المسيح أيضًا حل عقدة لسانه، فلم يعد الرجل أخرس، بل تكلم مستقيمًا، ولست أعلم ما هي كلماته الأولى التي نطق بها، لكني أعتقد أنها لابد كلمات الشكر لمخلصه وشافيه، إذ لا يمكن تصور أن اللسان الذي أطلق من عقاله، ينسى أن يشكر فضل من أحسن إليه، ولو أن الكثيرين للأسف العميق، يأخذون عطايا الله، ولكنهم مع ذلك جاحدون لا يشكرون، ثم إنه لا يمكن أن يتكلم إلا إذا شهد بما فعل الرب معه ورحمه، وحياتنا ينبغي لها أن تنطلق إنجيلاً شاهدًا لرحمة الله الواسعة، ومحبته الكاملة المباركة الكريمة!! لقد نظر المسيح إلى الرجل في مأساته وأنَّ، ولكن القصة لم تختتم بالأنين بل إن الحاضرين جميعًا وقد أوصاهم السيد أن لا يقولوا لأحد، لئلا يضحى الأمر أنفعال تتحول معه المعجزة إلى مجرد إحساس عاطفي، إن لم يدعم بالإيمان سيضحى إعجابًا حسيًا لا يصل إلى الأعماق،...
«ولكن على قدر ما أوصاهم كانوا ينادون أكثر كثيرًا، وبهتوا إلى الغاية قائلين إنه عمل كل شيء حسنًا. جعل الصم يسمعون والخرس يتكلمون» (مر 7 : 36 و37) ونحن نأمل أن هذا الذهول أمام عظمة المسيح وقدرته، والقول إنه عمل كل شيء حسنًا، تحولا إلى ولاء ثابت للسيد، إذ ليس هناك ما هو أقسى وأنجس من النظرات إلى معجزات المسيح، بالإحساس الوقتي القصير المنفعل! عندما أرسل جماعة من الأمريكيين إلى بنيامين فرانكلين، وكانوا قد أطلقوا اسمه على مدينتهم، وقالوا له ها نحن قد أطلقنا على المدينة اسمك، ونريد منك عطية لنصنع جرسًَا للكنيسة، أرسل إليهم شاكرًا تقديرهم، مع تبرعه، ولكنه طلب أن يصنعوا بها مكتبة، لأنه مع تقديره التام لجرس الكنيسة، إلا أنه قال : أريد أن تكون حياتي أكثر من مجرد رنين صوت!!
لست أعلم ماذا كان يفعل الأصم الأعقد بعد أن شفى، كلما سمع عن المسيح، وكلما أراد أن يتكلم عن هذا السيد!! ولعله من الأصلح ألا أسأل عن الرجل القديم، بل أسألك ماذا فعلت تجاه السيد يا من كنت مثل ذلك الأصم الأعقد، جتى جاءتك اللمسة الشافية العظيمة المباركة وتتكلم!!؟؟
«ورفع نظره نحو السماء وأنَّ وقال له إفثا. أي انفتح. وللوقت انفتحت أذناه وانحل رباط لسانه وتكلم مستقيمًا» (مر 7 : 34،35)
مقدمة
لا أعرف أن هناك مثيلاً لهذه القصة في الكتاب المقدس كله، ويكفي أن تعرفوا الفارق بينها وبين غيرها من قصص الشفاء، فقد كانت عادة المسيح أن يشفي الإنسان في الغالب وسط الجماهير أو على مقربة منها، ولكن المسيح وجد هذا الإنسان بين الجماهير، فأخذه بعيدًا عنها وهناك صنع المعجزة، وكان الرجل بطبيعته أصم أعقد، أي لا يسمع ولا يتكلم ولم يستعمل المسيح معه سوى كلمة صغيرة أخيرة، ولكن الجزء الغالب والأكبر كان بغير كلام، إذ كان بالحركة واللمس، إذ رفع السيد نظره نحو السماء، وما من شك في أن الرجل الآخر رفع نظره أيضًا، ولمس المسيح الرجل في أذنيه وفي لسانه، إذ كان يريد أن يرفع قلبه وإيمانه نحو السماء، قبل أن يتكلم كلمة واحدة، وقد فعل، وبعد ذلك جاء الكلام... قصة غريبة نادرة، ولكن السيد يستطيع أن يتعامل مع كل واحد منا، حتى ولو من غير كلام، ويستطيع أن يوجه أفكارنا في صمت، من الواضح أن هذه القصة تكشف لنا العناصر الضرورية للشفاء الروحي والجسدي ولذا يحسن أن نراها فيما يلي :
الشفاء والعزلة
تقول القصة الكتابية : «وجاءوا إليه بأصم أعقد وطلبوا إليه أن يضع يده عليه فأخذه من بين الجمع على ناحية» (مر 7 : 32 و 33).. وهو عين ما فعله مع الأعمى الذي أخرجه إلى خارج القرية، كما جاء في الأصحاح الثامن في مرقس، ولعل السؤال الآن هو لماذا فعل المسيح هكذا!!؟ نحن لا ندرك تمامًا ما المقصود من ذلك، ولكننا نلاحظ أن العزلة في حد ذاتها مرات كثيرة ما تكون الخطوة الصحيحة نحو الشفاء، وفي كثير من الأمراض يبدأون أولا بعزل المريض خشية العدوى أو ضعف المقاومة، ومهما يكن من الأمر فليس أجمل من أن يقال عن المسيح إنه «أخذه من بين الجمع على ناحية» وقد تبدو هذه الكلمة سريعة وبسيطة، لكنها في الواقع عميقة وخصبة!! والمسيح يفعلها بأساليب مختلفة في الحياة، فقد يفعل هذا معنا عن طريق «الذكريات الحلوة»... عندما بدأ روبرت موفات حياته كشاب بدأها بحارًا، ونحن نعلم أن حياة البحار يمكن أن توصف بأي شيء خلا أنها متدينة، ولكن روبرت موفات، وهو يركب المركب لأول مرة، انتحت به أمه ناحية قبل أن يصعد إلى ظهر المركب وقالت له : «الآن يا روبرت دعنا نقف وحدنا بضع دقائق، فإني أريد أن أطلب منك معروفًا، قبل أن نفترق!!؟ ... ما هو يا أمي!!؟ أريد أن تعدني أولا بأنك ستفعل ما سأطلبه منك!!؟ لا أقدر أن أعد يا أمي قبل أن أعرف طلبك!! ... وهل تفتكر يا روبرت أنني أطلب أمرًا في غير محله، وليس فيه خير!! ألست أحبك!!؟... إني أعرف ذلك يا أمي، ولكني لا أحب أن أعد إلا وأنا قادر على إنجاز الوعد.. ويقول روبرت موفات : «وخفضت عيني إلى الأرض وأنا صامت محاولاً أن أقاوم عواطفي الثائرة، ثم رفعت عيني فرأيت الدموع تنحدر على خديها فخنقتني العبرات ولما صرت قادرًا على الكلام قلت لها : أطلبي ما تشاءين يا أمي فإني سأجتهد أن أفعل كما تطلبين!! فقالت : إقرأ يا ابني الكتاب المقدس بانتظام كل يوم!! فقاطعتها قائلاً : ولكنك تعلمين يا أمي أني أقرأ في كتابي كل يوم!! ولكنك لا تقرأ بانتظام كما يجب أو كواجب عليك أنت مدين به لله ولنفسك.. فوعدها!! وإذ ذاك أجابت : الآن أعود إلى البيت بقلب مسرور، اقرأ كثيرًا في الإنجيل، الإنجيل المبارك فلا تضل الطريق، وان كنت تصلي فالله معك!! وقال موفات : لقد فارقت أمي إلى مركز عملي ثم إلى أماكن قريبة وبعيدة، حيث لم أجد هناك كنيسة أو مدرسة أحد قريبة مني، أو إنسانًا يهمه أمر الدين ولكنني لم أنس وعدي لأمي!!
وقد يأخذنا المسيح على ناحية عندما يعزلنا المرض أو الضيق أو الحاجة، وهو يرغب في أن يختلي بنا لأنه يريد أن يرفع عنا عاهة أو ينتزع من حياتنا مرضًا، أو يسيطر على علة تمكنت منا، وهو يفعل هذا في عمق الهدوء والسكون والتأمل، عندما لا يكون هناك من الجمع من يعطل شركتنا معه أو تأملنا فيه، وقد نأتي إلى منعطف الحياة مع المسيح عندما يصيبنا الزهد أو يأخذنا الملل، عندما تبدو الحياة وكأنما هي سراب لا معنى له، أو فقاعة من الهواء كما ألف أحد الفلاسفة أن يطلق عليها، ومهما يكن الدافع إلى العزلة، فإنها ضرورية لحياتنا ولشفائنا من أمراض كثيرة، ومن العجيب أنها الشيء الذي فعله الله في حياة أبطاله العظام، عندما أراد أن يحررهم من كثير من الأمراض أو الأدواء، التي كانوا لا يدركون أنهم في حاجة إلى التحرر منها، ونحن لا نستطيع أن نفسر حاجتهم إليها قبل أن نعلم أن موسى عاش أربعين سنة في البرية، وكان من المقصود أن هذه الأربعين عاماً دفنت رجولته العظيمة في رمال الصحراء وإن كان الواقع أنها دفنت هناك كبرياءه، وغروره، وإحساسه الذاتي بنفسه، وأخرجت من أعماقه مصر بكل ما ترسب منها فيه، وكانت تلك أمراضه التي كان ينبغي أن يتخلص منها قبل أن يعرف طريقه إلى الحياة الصحيحة وخدمة الله، وكان لابد لداود أن يعيش سنوات طويلة في البرية، وهو صبي يافع أو طريد من شاول، وأدخله الله إلى المنعطف في الشركة معه ليصلح أن يكون الرجل الذي كان يرى نفسه أنه لا يزيد عن برغوث أو كلب ميت أو لا شيء على الإطلاق كدودة حقيرة، وهكذا أبطال الله ينتزعون من بين الناس، ويأخذهم إلى المنعطف قبل أن يحل عقدة لسانهم أو يفك أسر آذانهم أو يهيئهم أو يهييء لهم الحياة الصحيحة السليمة المنتصرة على الضعف والمرض!!
الشفاء والنظرة
على أن المسيح لم يقصد أن يوجد في حالة عزلة فحسب. بل قصد أن يحوله من العزلة عن الناس، إلى النظر إلى السماء، ولأجل ذلك رفع المسيح عينيه ونظر إلى السماء، ولا شبهة في أن الرجل فعل الشيء ذاته، فرفع نظره هو أيضًا إلى فوق، وقد قصد السيد المسيح أن يربط نظر الرجل بالسماء، كان الرجل بطبيعته معزولاً عن الناس، وكان لا يستطيع أن يتفاهم معهم أو يتفاهموا معه، فإذا تكلموا إليه لا يسمع وإذا حاول أن يتكلم إليهم عجز، لكن الأصم الأعقد مع ذلك يستطيع أن يتكلم إلى الله، وينصت إلى صوت السماء، فكثير ما يصعب علينا التفاهم مع البشر،... وقفت إمرأة أرادت أن تعبر الشارع المزدحم بالمرور، وفي حيرتها تقدم إليها شاب، وقال : هل أعبر معك يا سيدتي، فقالت له : نعم.. ووضعت ذراعها في ذراعه، وفي عبورهما تعرضا للخطر، ولكنهما وصلا سالمين إلى الجانب الآخر، وقالت السيدة للشاب : يا بني إنك لا تستحق أي شكر لأنك كنت كالأعمى في عبورك، وكادت حياتي تضيع معك. وقال الشاب : نعم يا سيدني إنني أعمى ولأجل ذلك طلبت أن أعبر معك!!... عندما تخيب نظرتنا في الناس، سنجد هناك النظرة الصائبة التي لا يمكن أن يخيب منتظروها، وهل يمكن أن ننسى أن الواعظ الشهير اسبرجن جاء إلى المسيح نتيجة عظة لواعظ بسيط كان يتحدث عن آية إشعياء القائلة : «التفتوا إلي وأخلصوا...» (إش 45 : 22) وقد حدث هذا في يوم بارد ملأت كرات الثلج فيه أزقة وطرقات مدينة كلوشستر في انجلترا، وكان هناك شاب يعدو وسط الشوارع المقفرة ليحتمي من لفحات الريح، وليختبيء من الثلج المتساقط، وحدث أن ساقت العناية ذلك الفتى إلى كنيسة في تلك الناحية فدخلها وجلس على مقعد في إحدى الزوايا مصغيًا إلى العظة، وبعد نهاية الخدمة جاء الواعظ ليصافح الفتى وقال له : يظهر أنك شقي يا بني!! وستبقى شقيًا إلا إذا نظرت إلى الله وتطلعت إليه، وقد فتحت هذه الكلمات عالمًا جديدًا إذ انتقل الفتى لساعته من الظلمة إلى النور، ومن الموت إلى الحياة، ومن السبات الروحي إلى الأشراق السماوي!! ومن يزور تلك الكنيسة المنعزلة في كلوشستر يجد لوحة معلقة هناك تشير إلى تجديد اسبرجن وفيها يوضح كيف تغيرت الدنيا في نظره، ولطالما هتف اسبرجن قائلاً : إني أتطلع إلى طبيبي ليشفيني، كما أتطلع إلى المحامي لينصحني، وإلى البقال ليزودني بحاجاتي، ولكني أتطلع إلى إلهي دائمًا في سمائه، فهو يرنو إلى ويعطيني القوة، ويدخل في شركة معي، ولا يتركني وحيدًا في هذه الدنيا أبدًا!!
«أرفع عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني، معونتي من عند الرب صانع المسوات والأرض» (مز 121 : 1 و2) قد تتعطل بعض حواس الإنسان، فلا يستطيع أن يسمع أو يتكلم، ولكن روحه تستطيع أن تجد طريقها إلى عرش الله في السماء، وهي لا تحتاج إلى أكثر من نظرة متطلعة إلى الأعالي في صبر وانتظار!!
الشفاء والأنة
على أن السيد المسيح لم ينظر فقط بل أنّ أيضًا، وهل يمكن أن يرى هذا المنظر المؤلم دون أن يمتليء بالأنين، لقد رأى الرجل صورة للنقص الإنساني المروع، والعجز الجسدي الذي جلبته الخطية، هذا الرجل قد فقد حاستين أساسيتين في الإنسان : حاسة السمع، وحاسة النطق، ومن ذا الذي يدرك مدى ما كان يعانيه، وهو أصم، أعقد، يتكلم الناس فلا يسمع، يحاول أن يكلمهم فيعجز عن الكلام، هل تدرك مقدار ما كان يعاني بيتهوفن عندما فقد السمع كله في سنيه الأخيرة من الحياة، وهو الرجل الذي تعود أن يتنبه لزقزقة العصفور، ولخفيف النسيم، ولتدفق الجداول، لقد قال هو عن نفسه : إنه انتفع بالصمم حتى لا يسمع لغو الحديث بين الناس، ولكنه مع ذلك أغلق على نفسه سجنًا كبيرًا، وهو لا يسمع، ولا يستجيب لكلام الناس أو حديثهم أو منطقهم، ومع أن أديسون المخترع العظيم، انتفع إلى حد ما، بثقل سمعه، إلا أنه قال في أخريات حياته : إنه لم يسمع شدو عصفور بعد الثانية عشر من عمره، وما يقال عن السمع، يقال أيضًا عن الكلام، عندما يعجز المرء عن التعبير عما في داخله أو عما يعانيه، فإذا كان فقد السمع والقدرة على الكلام كارثة لأي إنسان، فإن الأمر أقسى وأشنع وأشد في المجال الروحي للحياة البشرية، قال السيد المسيح : «من له أذنان للسمع فليسمع» (مت 11 : 15) وليس لكل إنسان أذن ليسمع، ولكن أقسى مآسي الإنسان أنه عاش طوال التاريخ لا يستطيع أن يسمع نداء الله والحياة والمصير والأبدية، وقد أصم أذنيه عن الحق والخير والحب والإحسان والخلاص، وها الوعاظ والمبشرين والرعاة وخدام الله يصرخون ليلاً ونهارًا، ولكن هل سمع الناس واستجابوا لمجد الله وخير نفوسهم، أن النتائج المحسوسة الملموسة تبين لماذا ضاع الإنسان رغم كل تنبيه وزجر!! لأنه أصم عن كلمة الحياة الأبدية التي أرسلها الله إليه! ومن المؤسف أنه إذا كان جهاز الاستقبال عند الرجل عاطلاً، فإن جهاز الإرسال بالمثل، لا يستطيع أن يرد على كل نداء، أو يجيب على كل حديث، لم يكن الرجل أصم فحسب بل كان أعقد أي أخرس لا يستطيع الكلام. ولعله مما تجدر ملاحظته أن مخترع الراديو ومحطات الإذاعة في كل مكان جاء اختراعه وليد اكتشاف أن في رأس الإنسان محطتي استقبال وارسال، فنحن نستقبل بأذاننا الحديث كما تستقبل محطات الإذاعة ما يأتيها من أطراف الأرض، ثم تعود لترسلها إلى كل مكان، كما نرسل بألسنتنا الكلام إلى الآخرين، لكن الأصم الأعقد تعطلت فيه محطتا الاستقبال والإرسال، ومن المؤسف جدًا أن تتعطل هاتان المحطتان روحيًا في حياة أي إنسان على الأرض! وهل يمكن أن يرى المسيح مثل هذا العطل في الحياة دون أن يئن ويرفع نظره إلى السماء!!.
الشفاء واللمسة
على أن الحلقة الأخيرة في الشفاء كانت اللمسة : «ووضع أصابعه في أذنيه وتفل ولمس لسانه» (مر 7 : 33) وكم تتحدث هذه اللمسة عن معان عديدة، فهي أولاً اللمسة الرقيقة التي وصلت إلى الأذنين، وإلى اللسان، وهي تكشف عن رقة المسيح البالغة، لقد أراد أن يتخاطب مع الرجل عن طريق حاسة اللمس التي لم تتعطل بعد، لكي يؤكد له إحساسه العميق بتعاسته وحاجته ونقصه، وما من شك في أن هذه اللمسة هزته من الأعماق، إذ هي أشبه بالتيار الكهربائي الذي يدخل الجسم ويسرى في أعماقه.. قيل عن شاب إنه كان في أقسى لحظات حياته، إذ كان فاشلاً وخائرًا يوشك أن ينهار، وفي تلك اللحظة التعسة، التقى بالواعظ المشهور هنري دراموند، ولم يفعل دراموند أكثر من أنه مد يده ومس بها كتف الشاب، ونظر إليه بعينين تفيضان عطفًا وحنانًا، وغيرت اللمسة الشاب، وقال فيما بعد إنه نسى في الحياة أشياء كثيرة، ولكنه لم ينس لمسة السيد هذه، وظل وقعها على كتفه ونفسه بعيد الأثر، والمسيح في كل وقت يريد أن يؤكد لنا لمسته الرقيقة الممتلئة بالحنان والحب والعطف.
على أن اللمسة كانت أكثر من ذلك، إذ كانت اللمسة القادرة المعجزية العجيبة، فهذا الرجل لو أننا قدمناه لأطباء العالم لربما أجروا أبحاثًا عديدة عليه، ليعلنوا في نهايتها فشلهم ويأسهم، وأنه في أفضل الحالات، يمكن أن يكون نموذجًا يهتدون به، لمكافحة علة قد وجدوا بارقة أمل، فإنهم قد يخضعونه لعمليات جراحية متعددة، ربما تعطي نتائج محددة، وإذا أعطت فبعد زمن يطول أو يقصر، لكن لمسة المسيح شيء يختلف تمامًا عن هذا كله، إنها تنجز كل شيء بسرعة البرق. إنها لا تعرف التغيير المجزأ أو التغيير التدريجي، إذ هو يغير وينقذ ويخلص إلى التمام، إن القصة تعلن لنا أنه : للوقت انفتحت أذناه وانحل رباط لسانه وتكلم مستقيمًا» (مر 7 : 35) كانت اللمسة مزدوجة التأثير، إذ أعطته السمع، والنطق حقًا، وهي إلى اليوم تفعل هذا، إذ أنها تفتح الأذن، في لمح البصر ، يدرك الإنسان ما كان لا يستطيع إدراكه أو الوصول إليه، وعندنا ملايين الأمثلة في كل جيل وعصر، لأولئك الذين وصل المسيح إلى سمعهم، فتغير كل شي ء في حياتهم!!
كان هناك شاب أمريكي في أواخر القرن الماضي، وقد كتب قصته مثلاً لما يمكن أن يفعله المسيح في حياة كل واحد منا، كانت أمه تقية، وكانت تصلي على الدوام من أجله، ولكنه كان أصم عن كل نصائحها ومواعظها، وقد أمعن في الضلال والشر، حتى أصبح ملحدًا يفاخر بإلحاده، وقد نزع إلى كل موبقة وشر، وكان لا يفيق من سكره وعربدته، تزوج وأنجب طفلاً جميلاً، سر به، وكان الطفل البريء هو زهرة البيت وجماله، وكان في الثالثة من عمره عندما أصيبت أمه بمرض قاسي، أخذ يتهدد حياتها، استولى الضيق على الزوج، وضاق بحاله، ومرض زوجته وقرر أن ينتحر تخلصًا مما هو فيه، كان يعمل مهندسًا، وكان مركز عمله على شاطيء الباسيفيكي في الولايات المتحدة، ورأى أن يلقي بنفسه في مياه المحيط، وبينما هو يهم بفعل ذلك تذكر ابنه، الذي إذا انتحر سيتركه يتيمًا يعاني ما يعانيه كل يتيم صغير، فقرر أن يحمله معه، ليغرق معه حتى يموت كلاهما معًا، وهو هنا يتحدث بعمق الاختبار، لقد ذهب إلى مكان بعيد في الميناء وهم بأن يقذف بنفسه وقد أمسك بكلتا يديه بابنه، ولكن قدميه تسمرتا، غادر المكان مرة ومرات، وفي كل نقطة يذهب إليها لا يجسر على فعل ما كان مقدمًا عليه. أخيرًا عدل عن الفكرة، وأخذ ابنه إلى البيت، ودخل إلى مكتبه ليصرخ لله ليقول له : يقولون إنك موجود، وإنك قادر على كل شيء، فإذا أنقذتني وشفيت زوجتي، أعود إليك وأكرس حياتي لك، وآتاه الله بما سأل وإذا بالأصم عن كل نداء من الله، يتحول إلى الإنسان الذي يسمع صوت الله، وصار الأعقد يتكلم عن فضل الله فيما حدث معه، وقد قال : «إني الآن أجد لذة عظيمة في مقابلة كل من أعرفهم من الملحدين لأخبرهم أنه يوجد إله، ولأحدثهم عما فعل هذا الإله لنفسي، وبعد ذلك اهتدت زوجتي إلى الله، فأصبحنا كلانا عاملين نشطين في جيش الخلاص، وما أعظم التغيير الذي حدث في بيتنا!! حقًا إن لنا أبًا رحيمًا محبًا يأتي علينا بصبر إلى هذا الحد العظيم.
والآن أيها القاريء عليك أن تعلم أن الكلمة الأولى التي استمعها ذلك الأصم القديم كانت كلمة المسيح، وصوته الرقيق، وكان إنسان يفتح المسيح أذنه لابد أن يسمع صوته، قبل أن يسمع نداء العالم أو الجسد، وما أحلاه من صوت، لا يملك المرء معه إلا أن يقول : «تكلم لأن عبدك سامع»، (ا2م 2 : 10) وسيستمع الإنسان بالأذن المفتوحة إلى صوت الحق، والهداية، والإرشاد، بل دائمًا يقول : «يارب ماذا تريد أن أفعل» (أع 9 : 6(0
على أن المسيح أيضًا حل عقدة لسانه، فلم يعد الرجل أخرس، بل تكلم مستقيمًا، ولست أعلم ما هي كلماته الأولى التي نطق بها، لكني أعتقد أنها لابد كلمات الشكر لمخلصه وشافيه، إذ لا يمكن تصور أن اللسان الذي أطلق من عقاله، ينسى أن يشكر فضل من أحسن إليه، ولو أن الكثيرين للأسف العميق، يأخذون عطايا الله، ولكنهم مع ذلك جاحدون لا يشكرون، ثم إنه لا يمكن أن يتكلم إلا إذا شهد بما فعل الرب معه ورحمه، وحياتنا ينبغي لها أن تنطلق إنجيلاً شاهدًا لرحمة الله الواسعة، ومحبته الكاملة المباركة الكريمة!! لقد نظر المسيح إلى الرجل في مأساته وأنَّ، ولكن القصة لم تختتم بالأنين بل إن الحاضرين جميعًا وقد أوصاهم السيد أن لا يقولوا لأحد، لئلا يضحى الأمر أنفعال تتحول معه المعجزة إلى مجرد إحساس عاطفي، إن لم يدعم بالإيمان سيضحى إعجابًا حسيًا لا يصل إلى الأعماق،...
«ولكن على قدر ما أوصاهم كانوا ينادون أكثر كثيرًا، وبهتوا إلى الغاية قائلين إنه عمل كل شيء حسنًا. جعل الصم يسمعون والخرس يتكلمون» (مر 7 : 36 و37) ونحن نأمل أن هذا الذهول أمام عظمة المسيح وقدرته، والقول إنه عمل كل شيء حسنًا، تحولا إلى ولاء ثابت للسيد، إذ ليس هناك ما هو أقسى وأنجس من النظرات إلى معجزات المسيح، بالإحساس الوقتي القصير المنفعل! عندما أرسل جماعة من الأمريكيين إلى بنيامين فرانكلين، وكانوا قد أطلقوا اسمه على مدينتهم، وقالوا له ها نحن قد أطلقنا على المدينة اسمك، ونريد منك عطية لنصنع جرسًَا للكنيسة، أرسل إليهم شاكرًا تقديرهم، مع تبرعه، ولكنه طلب أن يصنعوا بها مكتبة، لأنه مع تقديره التام لجرس الكنيسة، إلا أنه قال : أريد أن تكون حياتي أكثر من مجرد رنين صوت!!
لست أعلم ماذا كان يفعل الأصم الأعقد بعد أن شفى، كلما سمع عن المسيح، وكلما أراد أن يتكلم عن هذا السيد!! ولعله من الأصلح ألا أسأل عن الرجل القديم، بل أسألك ماذا فعلت تجاه السيد يا من كنت مثل ذلك الأصم الأعقد، جتى جاءتك اللمسة الشافية العظيمة المباركة وتتكلم!!؟؟
ابو ماضى- مراقب عام المنتدى
- عدد المساهمات : 440
تاريخ التسجيل : 23/05/2010
العمر : 51
مارجرجس والشهداء :: الثاتية :: المزامير :: السنكسار :: الثالثة :: أقوال الاباء :: الرابعة :: شخصيات من الكتاب المقدس
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى