دبورة000000000000000000000
مارجرجس والشهداء :: الثاتية :: المزامير :: السنكسار :: الثالثة :: أقوال الاباء :: الرابعة :: شخصيات من الكتاب المقدس
صفحة 1 من اصل 1
دبورة000000000000000000000
دبورة
«فأرسلت ودعت بارقا بن أبينوعم....»
مقدمة
في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي، كانت الفتاة الفرنسية المشهورة «جان دارك» ترعى أغنامها في يوم من أيام الصيف، ولم تكن قد بلغت بعد الثامنة عشرة من عمرها وسمعت كما لو أن صوتًا سماويًا يناديها أن تذهب لإنقاذ فرنسا، التي كانت ترزح تحت النير الإنجليزي في ذلك الحين، وكانت الفتاة تؤمن بأن هذا صوت إلهي لا شك فيه، فسارت إلى حاكم المنطقة، وطلبت منه أو يرسلها إلى الملك، وسخر الحاكم بها في باديء الأمر، ولكنه اضطر إزاء إلحاحها أن يرسلها إلى الملك، وتردد الملك ورجال الدين في الاستماع إليها، ولكنهم ازاء إيمانها القوي لم يلبثوا أن أطاعوها، وجعلها الملك قائداً على الجيش الفرنسي، فإذا بالفتاة التي لم تكن تعرف الحرب تقود الجيوش الفرنسية بنجاح وتطرد الإنجليز وتتوج الملك على عرشه. ومع أن هذه الفتاة ذهبت . كما نعلم ضحية الحاسدين الذي أسلموها للبرغنديين، وهؤلاء بدورهم أسلموها لحلفائهم الإنجليز الذي اتهموها بتهمة السحر والشعوذة وحكموا عليها بالإعدام حرقاً وهي في التاسعة عشرة من عمرها، إلا أن السؤال الذي تطرحه هذه الفتاة - وطرحته من قبلها دبورة القاضية والنبية القديمة - على بعد التاريخ وتباين الأحوال والأوضاع والظروف، هو هل يجوز للمرأة أن تأخذ مركز القيادة والصدارة إلى الدرجة التي تقود فيها الجيوش وترأس الأمم، وتحكم البلاد، وتأخذ كافة المناصب القيادية اجتماعياً ودينيا، يقول البعض إن هذا جائز جدًا، وأن المسيحية لا يمكن أن تعترض عليه، وأنه اذا كان العهد القديم قد قدم لنا أسماء لامعة من هذا القبيل كمريم النبية، ودبورة، وراعوث، وأستير، وغيرهن، فإن العهد الجديد الذي حرر المرأة وأعطاها المساواة مع الرجل لابد يعطيها مركز أسمى وأعلى، ويمكنها من كافة المراكز القيادية في وقت غزت المرأة كل مكانة ومجال في الأرض، بل وأخذت سبيلها أيضًا في الفضاء، على أن البعض الآخر لا يرى هذا الرأى، ويرد عليه بأن التاريخ لا يعرف قط هذه القيادة النسائية إلا على وجه الاستثناء، وفي فترات متباعدة في التاريخ، ويوم يعز الرجال ويخرج ديوجين بمصاحبه المشهور في شوارع أثينا يفتش عن الرجل المنشود، وأن دور المرأة الصحيح أن تقف إلى جانب الرجل أو خلفه لتكون له بمثابة الملهم والمحفز والمعين كما فعلت دبورة عندما دعت باراق بن أبينوعم ليقود المعركة، واشترط أن تبقى إلى جواره حتى يصل إلى النصر...
كم يكون من المفيد اذن أن نتعرض لهذه الدراسة لعلنا نصل إلى الرأى الأرجح ولذا سندرس دبورة باعتبارها :
قوية الشخصية
إن الدراسة المتعمقة لشخصية دبورة كما جاءت في كلمة الله، تؤكد وتقطع بأنها شخصية نادرة غير عادية، أو إذا جاز التعبير على منطق الناس، فلته من الفلتات، أو نسخة من النسخ التي لا تتكرر سوى في عصور متباعدة في التاريخ قد تصل إلى المئات أو الألوف من السنين.. ولعل هذه الحقيقة تبدو بوضوح إذا أدركنا أن أية شخصية عادية، تبدو قوية في جانب من الجوانب على حساب جانب آخر، فالشخصية التي تملك عقلاً جبارًا مثلاً، قد يكون هذا على حساب العاطفة الرقيقة، أو المشاعر الحساسة التي تعوزها والعكس صحيح، فالشاعر الرقيق قل أن يكون محاربًا.. ولكن أن تكون الشخصية قاضية مفكرة وأما رقيقة، وأن تحمل في جنباتها عنف المحارب، وأغنية الشاعر، كمثل ما كانت عليه دبورة، فان هذا لا يحدث إلا على نحو نادر، وفي فترات متباعدة جدا وعلى الأغلب في عصور الأزمات والمحن القاسية والآلام الرهيبة في حياة الأمم والشعوب والممالك... كانت دبورة :
جبارة التفكير
وهذا يبدو من قدرتها كقاضية تجلس تحت نخلتها، ينتقل إليها المتنازعون من كل مكان للفصل بينهم، فيما استعصى عليهم حله من خصومه أو خلاف أو نزاع، ولا يمكن أن يذهب الرجال المتخاصمون إلى امرأة إلا لأن حكمتها فاقت جميع الرجال الموجودين في جيلها وعصرها، فهي من ذلك الصنف من النساء الذي يبرز في الأزمات كالمرأة التقوعية الحكيمة التي استعان بها يوآب في إرجاع أبشالوم من المنفى، أو الأخرى التي أنقذت مدينتها من الحصار عندما حاصر آبل بيت معكة، يوم فتنة شبع بن بكري، ولاشك أن شهرة أحكامها قد ذاعت في طول البلاد وعرضها وعرف عن أحكامها ما فيها من دقة وعمق وأصالة، وبعد عن التحيز والهوى والعاطفية التي جعلت بعض الدول تتردد في أن تجعل المرأة قاضية، أو على الأقل أن تجلس للحكم في ذلك النوع من القضايا الذي قد يخرج بها عن العدالة أو الإنصاف تحت تأثير العاطفة المفتعلة أو الشعور الوقتي.
مرهوبة الجانب
هذه الشخصية الحكيمة ولاشك مرهوبة الجانب محترمة من الجميع، وقد وصفها يوسيفوس المؤرخ اليهودي، أنها كانت موضع المهابة والاحترام، ليس في جيلها فحسب، بل في التاريخ اليهودي بأكمله، ولا يبدو هذا في قدرتها على وضع أحكامها كقاضية موضع التنفيذ، في عصر وصف أبلغ وصف بالكلمة التي جاءت في ختام سفر القضاة : «في تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل، كل واحد عمل ما حسن في عينيه». بل أكثر من ذلك في أنها وجهت الأمة ودعتها إلى الحرب، ورفض القائد أن يتحرك للقتال ألا اذا كانت هي على رأس الجيش، تسير إلى جواره خطوة فخطوة، والشيء العجيب في هذه المرأة أنها كانت تجمع بين قوة السكون، وقوة الحركة، كانت جالسة تحت نخلة دبورة، تحكم كما يحكم ملك من عرش، وعندما دعت باراق ابن أبينوعم إلى القتال، لم تذهب هي إليه، بل دعته ليأتي إليها، وفي هذا اعتزاز كبير بشخصيتها القوية، ولسلطانها الآمر، على أنها في قوة الحركة هي دبورة أو «نحلة» فهي أشبه بالنحلة المتحركة التي لا تستطيع أن تهدأ أو تسكن حتى تنفذ ما تريد، وتتمم ما ترغب!!
فياضة الأنوثة
على أن هذا كله لم يكن على حساب أنوثتها، أو مركزها كامرأة، لقد كانت هذه المرأة زوجة، وأما في ذات الوقت كان زوجها «لفيدوت» أو «مصباح» معروفًا ومذكورًا،.. كما أنها إلى جانب ذلك كانت أما، وأغلب الظن أنها كانت أما في بيتها، اذ كان لهما أولاد،.. ولكن أمومتها اتسعت لتشمل البلاد بأكملها، فإذا أضفنا إلى هذا كله أنها غنت شعرًا، والشاعر على الدوام إنسان مرهف الحس رقيق المشاعر، تبين إلى أي مدى كانت هذه المرأة دفاقة العاطفة، فوارة الاحساس مما يؤكد أن أنوثتها لم تذهب أدراج الرياح، وهي تفكر أو تقضي أو تعطي المشورة لشعبها.
مفتوحة العينين
كان عصرها عصر المأساة والنكبة، ومثل هذا العصر ليس من السهل على الإنسان أن يبصر فيه ما قد يحيط به الظلام من كل جانب، لكن هذه المرأة كانت «نبية» اخترقت عيناها الحجب الكثيفة، لترى رؤى الله، مفتوحة العينين، مكشوفة الحجاب، وقد وصلت إلى هذه الرؤيا لأنها كانت امرأة تقية، قريبة من الله، في أرض الاعوجاج والشر، ولعل من أكبر البركات في حياة الإنسان رجلاً كان أم امرأة، أن تكون له هذه الشفافية، فيرى خلف المنظور مالا يرى، ومن لا يرى، وطوبى للأتقياء القلب لأنهم يعاينون الله...
شجاعة القلب
ومن العجيب أن هذه المرأة، إلى جانب هذا كله كانت تحمل بين جنبيها أرق المشاعر وشجاعة الأسد، فهي لم تدع باراق إلى الحرب فحسب، لكنها سارت معه إلى الميدان، عندما طلب ذلك، ومع أنه ليس من السهل على الإنسان أن يتصور امرأة تقود أو تدفع جيشًَا إلى القتال، وأنها إذا سارت إلى ميدان القتال أو المعركة، فلكي تعمل على إيقاف نزيف الدم المنهمر بين المحاربين في أعمال الأغاثة والإسعاف والتمريض، إلا أن الذي يعنينا الآن في هذه المرأة، ونحن بصدد التعمق في تحليل شخصيتها مقدار ما كانت عليه من صلابة وشجاعة تستروح معها صيحة الحرب وقعقعة السلاح...
كانت دبورة في الواقع على حظ عال كبير من قدرة الفكر، والتهاب العاطفة، وجبروت الإرادة، وتكامل الشخصية غير العادية ونادرة الوجود!!..
دبورة وقضيتها
كانت هذه المرأة قاضية في جيلها وعصرها، وكم حكمت ولاشك بين المئات أو الآلاف من المتنازعين الذين وفدوا لكي تفصل بينهم فيما أثاروا من شكاوي أو خصومات، لكنها تحولت هي فيما بعد إلى قضية عامة تنتقل من جيل إلى جيل، ومن بلد إلى آخر ومن مجتمع إلى مجتمع، قضية المرأة، وهل من حقها أن تأخذ مكان القيادة أو الصدارة، وهل هذا الحق مطلق، وعام، وشامل!!؟ أم هو حق نسبي أو استثنائي لا يأتي إلا في أوقات خاصة، وظروف معينة!؟ ربما نكون أقدر على الأجابة أو أتيح لنا أن نمسك بها كقضية كتابية ندرسها بتأمل وعمق وإمعان في ضوء الحق الإلهي الظاهر من الوحي المقدس، وكلمة الله، وقضية دبورة على هذا الأساس تحمل الخصائص التالية :
قضية إقناع
وهذه الظاهرة الأولى في هذه القضية، فان أول أوصاف دبورة أنها «نبية» وهي ثاني نبية يذكرها الكتاب المقدس بعد مريم النبية «أخت موسى وهرون»، وهي النبية الوحيدة خلال أربعة قرون بين قضاة إسرائيل، وكان من المستحيل أن تظهر على المسرح إلا بعد اقتناعها واقتناع الشعب بصوت الله الذي جاء إليها، وليس في الكتاب ما يفصح عن النبوات التي تنبأت بها، فيما خلا إعلانها لباراق عن دعوة الله له ليقود المعركة، غير أنه من الواضح أن الشعب آمن بأنها تحمل رسالة الله، وأن صوت الله في فمها، وأن قوتها الصحيحة والحقيقية، بل إن شجاعتها الفائقة لم تكن كلتاهما صادرتين عن مجرد استعداد طبيعي في كيانها البشري، بل ليقينها الكامل بأنها مدفوعة من الله لغاية مقدسة... هذا هو الأمر الذي نطلق عليه في لغة الإيمان المسيحي بالدعوة العليا ومع أنه كما قال أحدهم : لم يعد من طبيعة المرأة أو من عملها أن تدعو إلى الحرب كما فعلت دبورة دفعاً للاستعباد أو الطغيان الذي وقع فيه الشعب بعد أن أسلمه الرب لأعدائه نتيجة لشرهم وخطاياهم، إلا أن الدعوة العليا في الرسالات المفتوحة أمام المرأة هي أول ما ينبغي أن تتحققه على نحو أكيد قاطع، لا يستشار معه كما يقول الرسول بولس لحم ودم، بل تندفع إليها بكل حماس ودون أدنى تردد، وقد جاءت أعداد كثيرة من النساء بعد دبورة، وتحققن من الرسالة التي وضعت عليهن وسرن وراء إعلانها الخاص وندائها الإلهي،... كانت ماري ريد مرسلة كسائر المرسلات اللواتي يعملن في الهند، ولكنها يوماً ما وقع نظرها على أبرص، فامتلأ قلبها ألماً ورأت الله يدعوها لخدمة البرص، فكرست حياتها لخدمتهم، وانتقلت اليها العدوى، ولكنها لم تجزع بل خدمت، وفنيت في خدمتهم، إذ كانت هذه رسالتها الموضوعة عليها في الأرض،... أبصرت جين ادامز متسولاً فقيرًا يلتقط قطعة من الكرنب من القمامة ويأكلها في الحي الشرقي في لندن، حي الفقراء، فآلمها المنظر وكرست حياتها لخدمة الضائعين المتشردين،... وهل يمكن أن ننسى خدمة اليزابيث فراى مع المسجونين وفلورنس نايتنجيل مع الجرحي، وفرانسيس ويلارد مع المدمنين والسكيرين، وهاريت بيتشر التي كتبت قصتها المشهورة «كوخ العم توم» للخلاص من الرق والعبودية، ومدام كوري مكتشفة الراديوم، وأمثالهن اللواتي كن نبيات عصرهن والعصور اللاحقة، فيما أدركن من رسالة عشن لها علي نحو عظيم ونبيل، لمجد الله، وخدمة الإنسانية، ورفع الألم والعار والتعاسة عن أعداد لا تنتهي من المعذبين في هذه الأرض!!..
قضية بيت
وبيت دبورة لم يضع في زحام قصتها العظيمة، إذ كانت زوجة «لفيدوت» ومعنى اسمه كما ذكرنا «مصباح» وهذا المصباح لم ينطفيء أو يخفت نوره خلف شخصيتها العظيمة، كما أن بيتها حيث ألفت أن تجلس تحت ظل نخلة دبورة كان بيتًا شهيرًا ومعروفًا، وأمومتها تؤكد ما قاله بصدق د.م. مكاي عندما وصفها بالقول: «ما هو الشيء العام الذي نلحظة على دبورة، هذا الأمر العام، أنها كامرأة عاملة لم تفشل في حياتها الخاصة، ونجاحها في حياتها العامة لم يبن على أنقاض حياتها البيتية، إذ لم تتلمس شهرتها ومجدها على أساس قذارة بيتها أو عدم المحافظة عليه أو على الشقاء أو عدم العناية التي يمكن أن تصيب زوجها وأولادها، وقد تقول كيف عرفت ذلك أجيبك أني عرفته من قولها أقمت أنا أما، وهل تظنون أن دبورة كانت تقول هذا لو أنها كانت فاشلة في حياتها البيتية كلا، بل أنها تقول: لا تحسبونني شاذة أو نبية بدوية، لأني وإن كنت نبية فأنا كغيري امرأة وادعة....» ولا شبهة عند هذا كله، أن نذكر أن المكان الأول للمرأة في كل العصور هو بيتها.. وأنها تستطيع أن تقدم أعظم الخدمات للحياة والكنيسة والمجتمع البشري، إذا استطاعت أن تبني بيتها، وتحسن معونة زوجها، وتربية أولادها تربية روحية دينية صافية، كانت زوجة لأحد خدام الله الإنجليز، وكان زوجها فقيرًا، وأنجبت أربع فتيات، أشرفت على تعليمهن وتربيتهن، وتزوجت الأولى بورن جونز الرسام العظيم، وتزوجت الثانية لورد بونيتير، وأصبحت أما للسير هوج بونيتير الكندي المشهور، وتزوجت الثالثة جون كبلنج وأنجبت أربع فتيات، أشرفت على تعليمهن وتربيتهن، وتزوجت الأخيرة رجلاً اسمه بولدوين الذي كان أبًا لبلدوين رئيس وراء بريطانيا في يوم من الأيام،.. وفي كل بلد ووطن تستطيع الأم الصالحة أن تخلق جيلاً ممتازاً لخدمة الله ومجد الأوطان والجماعات والشعوب.
قضية قيادة
والآن نأتي إلى السؤال الهام والحيوي، هل من حق المرأة أن تأخذ المراكز القيادية، على انفراد أو مشاركة الرجل في كل ميدان، وهل يشجع الفكر المسيحي مثل هذا الاتجاه؟ وهل تلقى قصة دبورة مزيداً من النور علي الرأى الصحيح من هذا القبيل؟
وأيا كانت الأفكار المختلفة والمتباينة في الإجابة على هذا السؤال، فمما لاشك فيه أن هناك ظاهرة تستدعى الالتفاف، أنه بدراسة الوحي والتاريخ، نجد أن الشخصيات غير العادية من النساء كن يظهرن في وقت الأزمات والشدائد وليس هذا بالغريب، سواء نظرنا إلى الظاهرة من خلال التفكير الديني أو الاجتماعي على حد سواء، فمن الوجهة الدينية هناك قاعدة أكيدة ثابتة، أنه إذا كان البشر يفاجأون لمحدودية أنظارهم وأعمارهم بهذه الصور أو تلك من أزمات الحياة، فحاشا لله أن يفاجأ على الإطلاق، بأية آزمة بل أنه في عنايته الشاملة يعد للأزمة أبطالها من الرجال أو النساء، الذين ينسجهم في بطن الزمن أو التاريخ ليظهروا في اللحظة المناسبة، وفي الوقت الدقيق، أليس هو القائل للشعب: أرسلت أمامك موسى وهرون ومريم، وأليس هو الذي أعد أستير لمواجهة المؤامرة التي كانت وشيكة الوقوع، كما سنشير في إفاضة الى ذلك، عند عرض قصة هذه الملكة القديمة، وأليس هو الذي أعد الكثير من البطلات والشهيدات، في أقسى عصور الاضطهاد والآلام ليكتبن أروع ما يمكن أن يكتب من سطور العظمة والمجد، أما إذا نظرنا إلى هذه الظاهرة بتفسيرها الاجتماعي، فإننا نعلم أن الضغط يولد الانفجار، والآلام تصنع البطولة والشدائد تخلق أنبل الناس وأعظمهم وأقواهم على الأطلاق.
ولعل عيون الكثيرات من أصحاب النفوس النبيلة، عندما تفتحت على تعاسة الآخرين وآلامهم كانت أشبه بعيني السامري الصالح، وهو يرى المنكوب الجريح على حافة الطريق الذي كان يسير فيه. وفي مثل هذه الأزمات لا يهم عند الله أن يستجيب لندائه رجل أو امرأة، فاذا لم يجد الله الرجل، سيجد المرأة التي تكون كما قال أحدهم : قريبة إلى إراداته وقلبه، وتتحرك للخدمة المقدسة، إذا كان الرجل غارقًا في هوانه أو ضعفه أو مشغولاً بالتافة أو الحقير من أوضاع هذه الحياة، وهذا ما كان عليه اليهود تماماً في عصر القضاة إذ تركوا الرب إلههم الحي الحقيقي ليعبدوا آلهة حديثة، وانحطوا إلى أبعد حدود الانحطاط دينيًا وأدبيًا واجتماعياً، فانفصل عنهم وتركهم، وباعهم، لينالوا ما وصلوا إليه من ضيق واستعباد وآلام وتعاسات.
والأزمات بهذا المعنى لا يمكن أن تؤخذ قياسًا مطلقًا يبني عليه المبدأ أو يتوسع فيه، كما ينبغي أن نلاحظ أن دبورة لم تعمد حتى في قلب هذه الأزمة، إلى أن تنشيء جيشًا أو تقوده كما فعلت جان دارك في التاريخ الفرنسي، بل رأت أن تدعو رجلاً إلى مكان القيادة، وعندما رفض الرجل أن يذهب إلى المعركة بمفرده، رضيت أن تذهب معه، على أن يدرك الفارق الطبيعي بين الرجل والمرأة، فهي لم تخلق للقتال كما يفعل الرجل، لكن رسالتها أن تقف خلف المقاتلين لتقوى وتشجع وتحفز وتدفع إلى الأمام.
ومن ثم فمن الطبيعي أن ندرك أن الأزمات تضع تحفظًا مضاعفا على ما ينادون بمساواة المرأة والرجل في الأعمال أو الوظائف أو الخدمات العامة، وهي أكثر من ذلك في نظر الفريق الأخر، استثناء من القاعدة، والاستثناء لا يجوز الأخذ به أو القياس عليه!! بل على العكس هو الضرورة التي لا يتجه إليها إلا في أضيق الحدود وأدق الأوقات.
فاذا طرحنا القضية في معناها الواسع، وليس فقط في حدود العهد القديم، بل ونحن نطل على المرأة في العهد الجديد، وفي التاريخ المسيحي على بعد أكثر من ثلاثة وثلاثين قرنًا من المرأة القديمة، كان لنا أن ندرك باديء ذي بدء أن مبدأ المساواة في المسيحية بين الرجل والمرأة أمر لا خلاف عليه، وأن الحضارة العظيمة التي وصل إليها الإنسان كان من العسير أن تتحقق من غير هذه المساواة، وأن نظرة واحدة بين ما كانت عليه المرأة أيام الحضارة الأغريقية أو الرومانية وما هي عليه الان ترينا مدى ما وصلت إليه من حرية لم تكن تحلم بها على الاطلاق، وقد أشرنا إلى هذا، عند الحديث عن شخصية بريسكلا، ويكفي أن نذكر هنا أن المسيح حطم كل الحواجز بين المرأة والرجل، أو كما يقول الرسول بولس : ليس ذكر ولا أنثى، وأوضحها بالقول : «غير أن الرجل ليس من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل في الرب...» غير أن هذه المساواة لا تعني الاندماج العملي أو الوظيفي في كل شيء، بل أن هناك أشياء يعملها، في الأصل، الرجل، وليس من السهل أن تعملها المرأة، والعكس صحيح، والتنظيم الوظيفي أمر يلفت الرسول النظر إليه في معرض هذه القضية عندما يقول : «أم ليست الطبيعة نفسها تعلمكم أن الرجل ان كان يرخي شعره فهو عيب له، وأما المرأة ان كانت ترخي شعرها فهو مجد لها لأن الشعر قد أعطى لها عوض برقع...» فوظيفة المرأة أو تكوينها أو طبيعتها أو نوع حياتها كأنثى، شيء يختلف تماما عما للرجل، وقد وضع الله من هذا القبيل القيادة للرجل، اذ وضعه موضع الرأس من الجسد كما يقول الكتاب : «لأن الرجل رأس المرأة» ولا يعني هذا للحظة واحدة معنى السيادة أو السيطرة أو التسلط بل بالأحرى التحرك والعمل على نظام ثابت دقيق، فالرأس لا يستطيع الاستغناء عن الجسد أو الانفصال عنه، أو أخذه بأي أسلوب من الشدة أو العنف أو القسوة، دون أن يرتد هذا الأثر عليه هو أولا وقبل كل شيء، إن العلاقة بين الرأس والجسد كالعلاقة بين أي رئيس وأمته أو أي قائد وجيشه، علاقة وظيفة لا يمكن أن يتصور فيه سوى الرابطة التي تحكم الاثنين، على وجه التكامل والتناسق والترتيب.
وقد أحكم السيد المسيح هذه القاعدة، وطبقها بالمعنى الكامل الدقيق، ففي الوقت الذي جمع فيه حوله من الأتباع الرجال والنساء على حد سواء، دون أدنى تفرقه، كان هناك التلاميذ، وكانت هناك النساء اللواتي كن يخدمنه من أموالهن، وفي الوقت الذي ظهرت فيه العلاقة بين الجميع على أرفع وأرقى لون حضاري عرفه الإنسان حتى يومنا الحالي، وطبقته الكنيسة المسيحية عندما كانت المرأة تسير جنبًا إلى جنب إلى جوار الرجل، في أورشليم واليهودية والسامرة، وفيلبي وكورنثوس وتسالونيكي وروما وسائر الكنائس التي ظهرت في آسيا وأوروبا معًا.. لم يمنع هذا من التمييز بين العلاقة الوظيفية والتنظيمية بين الرجل والمرأة سواء في داخل الكنيسة أو خارجها وعلى النحو الواضح الملحوظ في الإنجيل أو التاريخ!! فمثلاً لماذا لم يختر المسيح من بين تلاميذه الاثنى عشر أو السبعين امرأة واحدة أو أكثر ولماذا قصر هذا على الرجال دون غيرهم، ولماذا لم يختر للكنائس المختلفة امرأة لتكون أسقفًا أو شيخًا، أو لماذا لم يكن ملاك واحدة من الكنائس السبع من بين النساء، رغم وجود الكثيرات اللواتي كن من أعظم الشخصيات، وكان أثرهن في الكنيسة في بعض الأوقات أعمق وأقوى من أثر الرجال، كليدية وأفودية وسنتيخي في فيلبي، وبريسكلا التي كانت الكنيسة تنتقل في بيتها بانتقالها من مكان إلى آخر، وكانت على قدرة تعليمية، مكنتها من تعليم أبلوس العظيم طريق الرب بأكثر وضوح، ومع أن بولس في ختام رسالة رومية بعث بتحياته إلى مجموعة من النساء وصفهن في الخدمة والعمل بأجل الأوصاف، ومع أن يوحنا الرسول كتب رسالته الثانية إلى كيرية المختارة، فاننا لا نعثر في الكنيسة الأولى على وظيفة قيادية للمرأة، ما خلا فيبي التي ذكر أنها خادمة الكنيسة في كنخريا ويمكن أن تترجم الكلمة «شماسة» وتاريخ الكنيسة الأولى لا يتحدث كمبدأ عام عن استخدام النساء كشماسات، وحتى لو جاز هذا فان هذه الوظيفة، وقد أخذتها المرأة على هذا النطاق الاستثنائي، لا تؤخذ بالمفهوم الكتابي المطلق..
معنى الوظائف القيادية الكبرى في الكنيسة
على أن البعض يقول إن المسيحية كان من العسير عليها أن تعطي المرأة مثل هذه الوظائف القيادية، في وقت كان فيه مركز المرأة عند الرومان أو اليهود على حد سواء في أدنى المستويات، ولم يكن العالم مؤهلا لأن يراها في مثل مركزها العتيد، وأنه كان لابد من التدرج في هذه الحركة، حتى تفهم على صحتها، وحتى تحرر من السلبيات أو الأضرار التي كان يمكن أن تنشأ فيما لو فقدت التوازن بينها وبين تقدم المرأة التدريجي في التاريخ، ومع أن الرأى يبدو سليما إلى حد ما فإن المسيحية لم تقطع صلتها البتة بالأجواء والظروف والبيئات المحيطة بها، وأن ما يصلح في مكان لا يصلح بالضرورة في مكان آخر، كما أنها تدفع الحركات التقدمية في كل التاريخ إلى الأمام، غير أن هذا الرأى ما يزال قاصرًا عن ملاحظة أن الموقف الحضاري بالنسبة للمرأة المسيحية ظهرت أضواؤه بوضوح كما أشرنا من الدقيقة الأولى للمسيحية في العالم، وأن الطليعة بين النساء من أيام مريم العذراء، والمجدلية وليدية، وبريسكلا، وفيبي، وغيرهن، كان لهن من الجلال والنفوذ والتأثير ما يشجع على أن يأخذن كافة المراكز القيادية أسوة بالرجل دون أدنى تردد أو اقحام؟ لكن المسيحية لم تفعل لأنها ما تزال تفرق بين المساواة والتنظيم الوظيفي للذكورة والأنوثة في حياة الناس، وأن مريم العذراء أم المخلص، والتي اصطفاها الله وفضلها على جميع النساء في العالم، هذه السيدة المباركة أمر الرب أن تضم إلى خاصة يوحنا دون أن يمس هذا مركزها المقدس في شيء،.. ولكنه التنظيم الوظيفي في الحياة بين الناس، ولا شبهة في أن الكثيرات من النساء، ممن ذكرنا وغيرهن فاقت الواحدة فيهن بالخدمات، مما يتعذر على عشرات من الرجال مجتمعين معا، دون أن ينال هذا من التنظيم الذي يأخذ فيه الرجل أصلا، وعادة، مكان الرأس أو القائد..
فإذا عدنا لوضع السؤال بصورة أخرى، نرى فيها إمكانية وضع المرأة موضع القيادة على كافة المستويات وتخيلنا ماذا يمكن أن تكون حال الدنيا لو أن المرأة هي القائد في البيت أو الكنيسة أو المجتمع أو الجيش أو العالم بأسره، منفردة في ذلك أو متبادلة مع الرجل في هذا الموقع أو ذاك. أو سيدة أو رئيسة في بعض المجالات أو الميادين!! أيكون حال الدنيا أقل أو أسوأ؟ أيمكن أن تكون البيوت أهدأ أو أشر؟ وهل تتقدم الكنائس وتنمو أو تتراجع وتفشل؟ وهل يطلب البشر ضروريات الحياة أو ينزعون إلى الترف والكماليات؟ وهل يسود السلام أم تعم الحروب؟ كل هذه وغيرها من الأفكار التي يمكن أن تنهض عن هذا السؤال، لست أظن أنه من السهل الإجابة عليها بمعزل عن الوحي والتاريخ وأحداث العصور والأجيال...
ولعل القراءة المدققة لكلمة الله، وملاحظة الطبيعة، وأحداث الحياة والتاريخ تؤكد أن مكان المرأة على الدوام خلف الرجل، حيث هناك عملها ونشاطها ومملكتها العظيمة، وأنه لا يجوز بحكم التنظيم الوظيفي الإلهي لها، أن تأخذ مركز القيادة إلا من قبيل الاستثناء حين يضيع الرجل، أو يهمل رسالته أو يفقدها، أو يخور تجاهها، فلا تثريب هنا علي المرأة كالإناء الأضعف أن تحل محله في مثل هذه الحالات ليعطي المجد خالصًا وكاملاً للإله العظيم وحده الذي يستطيع أن يتمجد في الأنثى كما في الذكر سواء بسواء.
دبورة وأغنيتها
وأخيراً نأتي إلى أغنية دبورة التي غنتها غداة نصرها العظيم مع القائد باراق، والأغنية من الشعر العبري الرفيع، وتعد واحدة من أعظم الأغاني وأصدقها في التعبير عن الجو الحربي والوطني الذي قد يعيشه المرء في وطن محتل وشعب معذب، ولا نستطيع أن ننظر إلى الأغنية من هذا القبيل، دون أن نتذكر، أن دبورة غنتها في القرن الرابع عشر قبل المسيح، وأن روح دبورة أو يا عيل التي قتلت الرجل النائم الآمن في خيمتها، هي أشبه الكل بتلك الروح التي انتفضت ذات يوم في ابني زبدي وهما يريدان نارا من السماء تأتي لتحرق قرية من قرى السامرة لأنها رفضت دخول المسيح أو إيوائها له، فانتهرهما وهو يقول : «من أي روح أنتما لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص...» على أن دبورة وهي تغني لم تنظر إلى وطنها كمجرد وطن، ولا شعبها كمجرد شعب، بل نظرت إلى هذا الوطن وهذا الشعب، كأداة واعلان لمجد الله في الأرض، ومن أجل ذلك فهي تقر في يقين بأن الخراب والضياع والمأساة التي عاناها الشعب، جاءت لأنه استبدل إلهه بآلهة أخرى حديثة وانحرف عن الله، واعوج في السبيل، كما أن المعركة التي خاضتها، كانت عندها ليست مجرد معركة وطنية، بقدر ما هي معركة إلهية، ولأجل ذلك فهي تسخر من الذين رفضوا الدخول في المعركة، وجلسوا على المساقي بين الحظائر لسمع الصفير لقطعان الأغنام، وهم يتشدقون بالفارغ من حديث أو كلام كما لعنت من وقف على الحياد!
ولست أتصور أن هناك ما يمكن أن نختم به هذه الأغنية بأفضل من كلمات بروفسور مكاي عندما قال: «والآن أليس بينكم من يسمع الدعوة الإلهية كما سمعتها دبورة في القديم،.. فهناك بيوت خربة، ضائعة بينكم في هذه الأيام كما كانت أيام دبورة قديمًا، فالشهوة، والإدمان، والاغتصاب، والشر هي جيوش سيسرا القديمة التي ذبحت في طريقها عشرات الآلاف في أرضنا البهيجة فماذا أنتم فاعلون تجاه هذا الخراب؟ وهل لا يوجد بينكم من ينهض كدبورة لينضم إلى ذلك الجمع النبيل من الرجال والنساء، الجمع الذي لا يمكن أن يهدأ أو يستريح حتى يضرب ضربته القاضية لمجد الله، والإنسانية؟ ألستم تسمعون نداء المسيح أيتها الأخوات من النساء؟ أجل فإنه نفس الصوت الذي جاء قديمًا إلى بنات أورشليم عندما قال : «يا بنات أورشليم لا تبكين علي، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن...» ابكين بكاء الضراعة والحزن على غيركن من أخوات خاطئات.... ألا فانهضن من فراش تنعمكن، وهدوء جمودكن وسرن مع المسيح في «طريق الآلام» لتساعدنه بمساعدة إخوتكم من الرجال والنساء...».
«فأرسلت ودعت بارقا بن أبينوعم....»
مقدمة
في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي، كانت الفتاة الفرنسية المشهورة «جان دارك» ترعى أغنامها في يوم من أيام الصيف، ولم تكن قد بلغت بعد الثامنة عشرة من عمرها وسمعت كما لو أن صوتًا سماويًا يناديها أن تذهب لإنقاذ فرنسا، التي كانت ترزح تحت النير الإنجليزي في ذلك الحين، وكانت الفتاة تؤمن بأن هذا صوت إلهي لا شك فيه، فسارت إلى حاكم المنطقة، وطلبت منه أو يرسلها إلى الملك، وسخر الحاكم بها في باديء الأمر، ولكنه اضطر إزاء إلحاحها أن يرسلها إلى الملك، وتردد الملك ورجال الدين في الاستماع إليها، ولكنهم ازاء إيمانها القوي لم يلبثوا أن أطاعوها، وجعلها الملك قائداً على الجيش الفرنسي، فإذا بالفتاة التي لم تكن تعرف الحرب تقود الجيوش الفرنسية بنجاح وتطرد الإنجليز وتتوج الملك على عرشه. ومع أن هذه الفتاة ذهبت . كما نعلم ضحية الحاسدين الذي أسلموها للبرغنديين، وهؤلاء بدورهم أسلموها لحلفائهم الإنجليز الذي اتهموها بتهمة السحر والشعوذة وحكموا عليها بالإعدام حرقاً وهي في التاسعة عشرة من عمرها، إلا أن السؤال الذي تطرحه هذه الفتاة - وطرحته من قبلها دبورة القاضية والنبية القديمة - على بعد التاريخ وتباين الأحوال والأوضاع والظروف، هو هل يجوز للمرأة أن تأخذ مركز القيادة والصدارة إلى الدرجة التي تقود فيها الجيوش وترأس الأمم، وتحكم البلاد، وتأخذ كافة المناصب القيادية اجتماعياً ودينيا، يقول البعض إن هذا جائز جدًا، وأن المسيحية لا يمكن أن تعترض عليه، وأنه اذا كان العهد القديم قد قدم لنا أسماء لامعة من هذا القبيل كمريم النبية، ودبورة، وراعوث، وأستير، وغيرهن، فإن العهد الجديد الذي حرر المرأة وأعطاها المساواة مع الرجل لابد يعطيها مركز أسمى وأعلى، ويمكنها من كافة المراكز القيادية في وقت غزت المرأة كل مكانة ومجال في الأرض، بل وأخذت سبيلها أيضًا في الفضاء، على أن البعض الآخر لا يرى هذا الرأى، ويرد عليه بأن التاريخ لا يعرف قط هذه القيادة النسائية إلا على وجه الاستثناء، وفي فترات متباعدة في التاريخ، ويوم يعز الرجال ويخرج ديوجين بمصاحبه المشهور في شوارع أثينا يفتش عن الرجل المنشود، وأن دور المرأة الصحيح أن تقف إلى جانب الرجل أو خلفه لتكون له بمثابة الملهم والمحفز والمعين كما فعلت دبورة عندما دعت باراق بن أبينوعم ليقود المعركة، واشترط أن تبقى إلى جواره حتى يصل إلى النصر...
كم يكون من المفيد اذن أن نتعرض لهذه الدراسة لعلنا نصل إلى الرأى الأرجح ولذا سندرس دبورة باعتبارها :
قوية الشخصية
إن الدراسة المتعمقة لشخصية دبورة كما جاءت في كلمة الله، تؤكد وتقطع بأنها شخصية نادرة غير عادية، أو إذا جاز التعبير على منطق الناس، فلته من الفلتات، أو نسخة من النسخ التي لا تتكرر سوى في عصور متباعدة في التاريخ قد تصل إلى المئات أو الألوف من السنين.. ولعل هذه الحقيقة تبدو بوضوح إذا أدركنا أن أية شخصية عادية، تبدو قوية في جانب من الجوانب على حساب جانب آخر، فالشخصية التي تملك عقلاً جبارًا مثلاً، قد يكون هذا على حساب العاطفة الرقيقة، أو المشاعر الحساسة التي تعوزها والعكس صحيح، فالشاعر الرقيق قل أن يكون محاربًا.. ولكن أن تكون الشخصية قاضية مفكرة وأما رقيقة، وأن تحمل في جنباتها عنف المحارب، وأغنية الشاعر، كمثل ما كانت عليه دبورة، فان هذا لا يحدث إلا على نحو نادر، وفي فترات متباعدة جدا وعلى الأغلب في عصور الأزمات والمحن القاسية والآلام الرهيبة في حياة الأمم والشعوب والممالك... كانت دبورة :
جبارة التفكير
وهذا يبدو من قدرتها كقاضية تجلس تحت نخلتها، ينتقل إليها المتنازعون من كل مكان للفصل بينهم، فيما استعصى عليهم حله من خصومه أو خلاف أو نزاع، ولا يمكن أن يذهب الرجال المتخاصمون إلى امرأة إلا لأن حكمتها فاقت جميع الرجال الموجودين في جيلها وعصرها، فهي من ذلك الصنف من النساء الذي يبرز في الأزمات كالمرأة التقوعية الحكيمة التي استعان بها يوآب في إرجاع أبشالوم من المنفى، أو الأخرى التي أنقذت مدينتها من الحصار عندما حاصر آبل بيت معكة، يوم فتنة شبع بن بكري، ولاشك أن شهرة أحكامها قد ذاعت في طول البلاد وعرضها وعرف عن أحكامها ما فيها من دقة وعمق وأصالة، وبعد عن التحيز والهوى والعاطفية التي جعلت بعض الدول تتردد في أن تجعل المرأة قاضية، أو على الأقل أن تجلس للحكم في ذلك النوع من القضايا الذي قد يخرج بها عن العدالة أو الإنصاف تحت تأثير العاطفة المفتعلة أو الشعور الوقتي.
مرهوبة الجانب
هذه الشخصية الحكيمة ولاشك مرهوبة الجانب محترمة من الجميع، وقد وصفها يوسيفوس المؤرخ اليهودي، أنها كانت موضع المهابة والاحترام، ليس في جيلها فحسب، بل في التاريخ اليهودي بأكمله، ولا يبدو هذا في قدرتها على وضع أحكامها كقاضية موضع التنفيذ، في عصر وصف أبلغ وصف بالكلمة التي جاءت في ختام سفر القضاة : «في تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل، كل واحد عمل ما حسن في عينيه». بل أكثر من ذلك في أنها وجهت الأمة ودعتها إلى الحرب، ورفض القائد أن يتحرك للقتال ألا اذا كانت هي على رأس الجيش، تسير إلى جواره خطوة فخطوة، والشيء العجيب في هذه المرأة أنها كانت تجمع بين قوة السكون، وقوة الحركة، كانت جالسة تحت نخلة دبورة، تحكم كما يحكم ملك من عرش، وعندما دعت باراق ابن أبينوعم إلى القتال، لم تذهب هي إليه، بل دعته ليأتي إليها، وفي هذا اعتزاز كبير بشخصيتها القوية، ولسلطانها الآمر، على أنها في قوة الحركة هي دبورة أو «نحلة» فهي أشبه بالنحلة المتحركة التي لا تستطيع أن تهدأ أو تسكن حتى تنفذ ما تريد، وتتمم ما ترغب!!
فياضة الأنوثة
على أن هذا كله لم يكن على حساب أنوثتها، أو مركزها كامرأة، لقد كانت هذه المرأة زوجة، وأما في ذات الوقت كان زوجها «لفيدوت» أو «مصباح» معروفًا ومذكورًا،.. كما أنها إلى جانب ذلك كانت أما، وأغلب الظن أنها كانت أما في بيتها، اذ كان لهما أولاد،.. ولكن أمومتها اتسعت لتشمل البلاد بأكملها، فإذا أضفنا إلى هذا كله أنها غنت شعرًا، والشاعر على الدوام إنسان مرهف الحس رقيق المشاعر، تبين إلى أي مدى كانت هذه المرأة دفاقة العاطفة، فوارة الاحساس مما يؤكد أن أنوثتها لم تذهب أدراج الرياح، وهي تفكر أو تقضي أو تعطي المشورة لشعبها.
مفتوحة العينين
كان عصرها عصر المأساة والنكبة، ومثل هذا العصر ليس من السهل على الإنسان أن يبصر فيه ما قد يحيط به الظلام من كل جانب، لكن هذه المرأة كانت «نبية» اخترقت عيناها الحجب الكثيفة، لترى رؤى الله، مفتوحة العينين، مكشوفة الحجاب، وقد وصلت إلى هذه الرؤيا لأنها كانت امرأة تقية، قريبة من الله، في أرض الاعوجاج والشر، ولعل من أكبر البركات في حياة الإنسان رجلاً كان أم امرأة، أن تكون له هذه الشفافية، فيرى خلف المنظور مالا يرى، ومن لا يرى، وطوبى للأتقياء القلب لأنهم يعاينون الله...
شجاعة القلب
ومن العجيب أن هذه المرأة، إلى جانب هذا كله كانت تحمل بين جنبيها أرق المشاعر وشجاعة الأسد، فهي لم تدع باراق إلى الحرب فحسب، لكنها سارت معه إلى الميدان، عندما طلب ذلك، ومع أنه ليس من السهل على الإنسان أن يتصور امرأة تقود أو تدفع جيشًَا إلى القتال، وأنها إذا سارت إلى ميدان القتال أو المعركة، فلكي تعمل على إيقاف نزيف الدم المنهمر بين المحاربين في أعمال الأغاثة والإسعاف والتمريض، إلا أن الذي يعنينا الآن في هذه المرأة، ونحن بصدد التعمق في تحليل شخصيتها مقدار ما كانت عليه من صلابة وشجاعة تستروح معها صيحة الحرب وقعقعة السلاح...
كانت دبورة في الواقع على حظ عال كبير من قدرة الفكر، والتهاب العاطفة، وجبروت الإرادة، وتكامل الشخصية غير العادية ونادرة الوجود!!..
دبورة وقضيتها
كانت هذه المرأة قاضية في جيلها وعصرها، وكم حكمت ولاشك بين المئات أو الآلاف من المتنازعين الذين وفدوا لكي تفصل بينهم فيما أثاروا من شكاوي أو خصومات، لكنها تحولت هي فيما بعد إلى قضية عامة تنتقل من جيل إلى جيل، ومن بلد إلى آخر ومن مجتمع إلى مجتمع، قضية المرأة، وهل من حقها أن تأخذ مكان القيادة أو الصدارة، وهل هذا الحق مطلق، وعام، وشامل!!؟ أم هو حق نسبي أو استثنائي لا يأتي إلا في أوقات خاصة، وظروف معينة!؟ ربما نكون أقدر على الأجابة أو أتيح لنا أن نمسك بها كقضية كتابية ندرسها بتأمل وعمق وإمعان في ضوء الحق الإلهي الظاهر من الوحي المقدس، وكلمة الله، وقضية دبورة على هذا الأساس تحمل الخصائص التالية :
قضية إقناع
وهذه الظاهرة الأولى في هذه القضية، فان أول أوصاف دبورة أنها «نبية» وهي ثاني نبية يذكرها الكتاب المقدس بعد مريم النبية «أخت موسى وهرون»، وهي النبية الوحيدة خلال أربعة قرون بين قضاة إسرائيل، وكان من المستحيل أن تظهر على المسرح إلا بعد اقتناعها واقتناع الشعب بصوت الله الذي جاء إليها، وليس في الكتاب ما يفصح عن النبوات التي تنبأت بها، فيما خلا إعلانها لباراق عن دعوة الله له ليقود المعركة، غير أنه من الواضح أن الشعب آمن بأنها تحمل رسالة الله، وأن صوت الله في فمها، وأن قوتها الصحيحة والحقيقية، بل إن شجاعتها الفائقة لم تكن كلتاهما صادرتين عن مجرد استعداد طبيعي في كيانها البشري، بل ليقينها الكامل بأنها مدفوعة من الله لغاية مقدسة... هذا هو الأمر الذي نطلق عليه في لغة الإيمان المسيحي بالدعوة العليا ومع أنه كما قال أحدهم : لم يعد من طبيعة المرأة أو من عملها أن تدعو إلى الحرب كما فعلت دبورة دفعاً للاستعباد أو الطغيان الذي وقع فيه الشعب بعد أن أسلمه الرب لأعدائه نتيجة لشرهم وخطاياهم، إلا أن الدعوة العليا في الرسالات المفتوحة أمام المرأة هي أول ما ينبغي أن تتحققه على نحو أكيد قاطع، لا يستشار معه كما يقول الرسول بولس لحم ودم، بل تندفع إليها بكل حماس ودون أدنى تردد، وقد جاءت أعداد كثيرة من النساء بعد دبورة، وتحققن من الرسالة التي وضعت عليهن وسرن وراء إعلانها الخاص وندائها الإلهي،... كانت ماري ريد مرسلة كسائر المرسلات اللواتي يعملن في الهند، ولكنها يوماً ما وقع نظرها على أبرص، فامتلأ قلبها ألماً ورأت الله يدعوها لخدمة البرص، فكرست حياتها لخدمتهم، وانتقلت اليها العدوى، ولكنها لم تجزع بل خدمت، وفنيت في خدمتهم، إذ كانت هذه رسالتها الموضوعة عليها في الأرض،... أبصرت جين ادامز متسولاً فقيرًا يلتقط قطعة من الكرنب من القمامة ويأكلها في الحي الشرقي في لندن، حي الفقراء، فآلمها المنظر وكرست حياتها لخدمة الضائعين المتشردين،... وهل يمكن أن ننسى خدمة اليزابيث فراى مع المسجونين وفلورنس نايتنجيل مع الجرحي، وفرانسيس ويلارد مع المدمنين والسكيرين، وهاريت بيتشر التي كتبت قصتها المشهورة «كوخ العم توم» للخلاص من الرق والعبودية، ومدام كوري مكتشفة الراديوم، وأمثالهن اللواتي كن نبيات عصرهن والعصور اللاحقة، فيما أدركن من رسالة عشن لها علي نحو عظيم ونبيل، لمجد الله، وخدمة الإنسانية، ورفع الألم والعار والتعاسة عن أعداد لا تنتهي من المعذبين في هذه الأرض!!..
قضية بيت
وبيت دبورة لم يضع في زحام قصتها العظيمة، إذ كانت زوجة «لفيدوت» ومعنى اسمه كما ذكرنا «مصباح» وهذا المصباح لم ينطفيء أو يخفت نوره خلف شخصيتها العظيمة، كما أن بيتها حيث ألفت أن تجلس تحت ظل نخلة دبورة كان بيتًا شهيرًا ومعروفًا، وأمومتها تؤكد ما قاله بصدق د.م. مكاي عندما وصفها بالقول: «ما هو الشيء العام الذي نلحظة على دبورة، هذا الأمر العام، أنها كامرأة عاملة لم تفشل في حياتها الخاصة، ونجاحها في حياتها العامة لم يبن على أنقاض حياتها البيتية، إذ لم تتلمس شهرتها ومجدها على أساس قذارة بيتها أو عدم المحافظة عليه أو على الشقاء أو عدم العناية التي يمكن أن تصيب زوجها وأولادها، وقد تقول كيف عرفت ذلك أجيبك أني عرفته من قولها أقمت أنا أما، وهل تظنون أن دبورة كانت تقول هذا لو أنها كانت فاشلة في حياتها البيتية كلا، بل أنها تقول: لا تحسبونني شاذة أو نبية بدوية، لأني وإن كنت نبية فأنا كغيري امرأة وادعة....» ولا شبهة عند هذا كله، أن نذكر أن المكان الأول للمرأة في كل العصور هو بيتها.. وأنها تستطيع أن تقدم أعظم الخدمات للحياة والكنيسة والمجتمع البشري، إذا استطاعت أن تبني بيتها، وتحسن معونة زوجها، وتربية أولادها تربية روحية دينية صافية، كانت زوجة لأحد خدام الله الإنجليز، وكان زوجها فقيرًا، وأنجبت أربع فتيات، أشرفت على تعليمهن وتربيتهن، وتزوجت الأولى بورن جونز الرسام العظيم، وتزوجت الثانية لورد بونيتير، وأصبحت أما للسير هوج بونيتير الكندي المشهور، وتزوجت الثالثة جون كبلنج وأنجبت أربع فتيات، أشرفت على تعليمهن وتربيتهن، وتزوجت الأخيرة رجلاً اسمه بولدوين الذي كان أبًا لبلدوين رئيس وراء بريطانيا في يوم من الأيام،.. وفي كل بلد ووطن تستطيع الأم الصالحة أن تخلق جيلاً ممتازاً لخدمة الله ومجد الأوطان والجماعات والشعوب.
قضية قيادة
والآن نأتي إلى السؤال الهام والحيوي، هل من حق المرأة أن تأخذ المراكز القيادية، على انفراد أو مشاركة الرجل في كل ميدان، وهل يشجع الفكر المسيحي مثل هذا الاتجاه؟ وهل تلقى قصة دبورة مزيداً من النور علي الرأى الصحيح من هذا القبيل؟
وأيا كانت الأفكار المختلفة والمتباينة في الإجابة على هذا السؤال، فمما لاشك فيه أن هناك ظاهرة تستدعى الالتفاف، أنه بدراسة الوحي والتاريخ، نجد أن الشخصيات غير العادية من النساء كن يظهرن في وقت الأزمات والشدائد وليس هذا بالغريب، سواء نظرنا إلى الظاهرة من خلال التفكير الديني أو الاجتماعي على حد سواء، فمن الوجهة الدينية هناك قاعدة أكيدة ثابتة، أنه إذا كان البشر يفاجأون لمحدودية أنظارهم وأعمارهم بهذه الصور أو تلك من أزمات الحياة، فحاشا لله أن يفاجأ على الإطلاق، بأية آزمة بل أنه في عنايته الشاملة يعد للأزمة أبطالها من الرجال أو النساء، الذين ينسجهم في بطن الزمن أو التاريخ ليظهروا في اللحظة المناسبة، وفي الوقت الدقيق، أليس هو القائل للشعب: أرسلت أمامك موسى وهرون ومريم، وأليس هو الذي أعد أستير لمواجهة المؤامرة التي كانت وشيكة الوقوع، كما سنشير في إفاضة الى ذلك، عند عرض قصة هذه الملكة القديمة، وأليس هو الذي أعد الكثير من البطلات والشهيدات، في أقسى عصور الاضطهاد والآلام ليكتبن أروع ما يمكن أن يكتب من سطور العظمة والمجد، أما إذا نظرنا إلى هذه الظاهرة بتفسيرها الاجتماعي، فإننا نعلم أن الضغط يولد الانفجار، والآلام تصنع البطولة والشدائد تخلق أنبل الناس وأعظمهم وأقواهم على الأطلاق.
ولعل عيون الكثيرات من أصحاب النفوس النبيلة، عندما تفتحت على تعاسة الآخرين وآلامهم كانت أشبه بعيني السامري الصالح، وهو يرى المنكوب الجريح على حافة الطريق الذي كان يسير فيه. وفي مثل هذه الأزمات لا يهم عند الله أن يستجيب لندائه رجل أو امرأة، فاذا لم يجد الله الرجل، سيجد المرأة التي تكون كما قال أحدهم : قريبة إلى إراداته وقلبه، وتتحرك للخدمة المقدسة، إذا كان الرجل غارقًا في هوانه أو ضعفه أو مشغولاً بالتافة أو الحقير من أوضاع هذه الحياة، وهذا ما كان عليه اليهود تماماً في عصر القضاة إذ تركوا الرب إلههم الحي الحقيقي ليعبدوا آلهة حديثة، وانحطوا إلى أبعد حدود الانحطاط دينيًا وأدبيًا واجتماعياً، فانفصل عنهم وتركهم، وباعهم، لينالوا ما وصلوا إليه من ضيق واستعباد وآلام وتعاسات.
والأزمات بهذا المعنى لا يمكن أن تؤخذ قياسًا مطلقًا يبني عليه المبدأ أو يتوسع فيه، كما ينبغي أن نلاحظ أن دبورة لم تعمد حتى في قلب هذه الأزمة، إلى أن تنشيء جيشًا أو تقوده كما فعلت جان دارك في التاريخ الفرنسي، بل رأت أن تدعو رجلاً إلى مكان القيادة، وعندما رفض الرجل أن يذهب إلى المعركة بمفرده، رضيت أن تذهب معه، على أن يدرك الفارق الطبيعي بين الرجل والمرأة، فهي لم تخلق للقتال كما يفعل الرجل، لكن رسالتها أن تقف خلف المقاتلين لتقوى وتشجع وتحفز وتدفع إلى الأمام.
ومن ثم فمن الطبيعي أن ندرك أن الأزمات تضع تحفظًا مضاعفا على ما ينادون بمساواة المرأة والرجل في الأعمال أو الوظائف أو الخدمات العامة، وهي أكثر من ذلك في نظر الفريق الأخر، استثناء من القاعدة، والاستثناء لا يجوز الأخذ به أو القياس عليه!! بل على العكس هو الضرورة التي لا يتجه إليها إلا في أضيق الحدود وأدق الأوقات.
فاذا طرحنا القضية في معناها الواسع، وليس فقط في حدود العهد القديم، بل ونحن نطل على المرأة في العهد الجديد، وفي التاريخ المسيحي على بعد أكثر من ثلاثة وثلاثين قرنًا من المرأة القديمة، كان لنا أن ندرك باديء ذي بدء أن مبدأ المساواة في المسيحية بين الرجل والمرأة أمر لا خلاف عليه، وأن الحضارة العظيمة التي وصل إليها الإنسان كان من العسير أن تتحقق من غير هذه المساواة، وأن نظرة واحدة بين ما كانت عليه المرأة أيام الحضارة الأغريقية أو الرومانية وما هي عليه الان ترينا مدى ما وصلت إليه من حرية لم تكن تحلم بها على الاطلاق، وقد أشرنا إلى هذا، عند الحديث عن شخصية بريسكلا، ويكفي أن نذكر هنا أن المسيح حطم كل الحواجز بين المرأة والرجل، أو كما يقول الرسول بولس : ليس ذكر ولا أنثى، وأوضحها بالقول : «غير أن الرجل ليس من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل في الرب...» غير أن هذه المساواة لا تعني الاندماج العملي أو الوظيفي في كل شيء، بل أن هناك أشياء يعملها، في الأصل، الرجل، وليس من السهل أن تعملها المرأة، والعكس صحيح، والتنظيم الوظيفي أمر يلفت الرسول النظر إليه في معرض هذه القضية عندما يقول : «أم ليست الطبيعة نفسها تعلمكم أن الرجل ان كان يرخي شعره فهو عيب له، وأما المرأة ان كانت ترخي شعرها فهو مجد لها لأن الشعر قد أعطى لها عوض برقع...» فوظيفة المرأة أو تكوينها أو طبيعتها أو نوع حياتها كأنثى، شيء يختلف تماما عما للرجل، وقد وضع الله من هذا القبيل القيادة للرجل، اذ وضعه موضع الرأس من الجسد كما يقول الكتاب : «لأن الرجل رأس المرأة» ولا يعني هذا للحظة واحدة معنى السيادة أو السيطرة أو التسلط بل بالأحرى التحرك والعمل على نظام ثابت دقيق، فالرأس لا يستطيع الاستغناء عن الجسد أو الانفصال عنه، أو أخذه بأي أسلوب من الشدة أو العنف أو القسوة، دون أن يرتد هذا الأثر عليه هو أولا وقبل كل شيء، إن العلاقة بين الرأس والجسد كالعلاقة بين أي رئيس وأمته أو أي قائد وجيشه، علاقة وظيفة لا يمكن أن يتصور فيه سوى الرابطة التي تحكم الاثنين، على وجه التكامل والتناسق والترتيب.
وقد أحكم السيد المسيح هذه القاعدة، وطبقها بالمعنى الكامل الدقيق، ففي الوقت الذي جمع فيه حوله من الأتباع الرجال والنساء على حد سواء، دون أدنى تفرقه، كان هناك التلاميذ، وكانت هناك النساء اللواتي كن يخدمنه من أموالهن، وفي الوقت الذي ظهرت فيه العلاقة بين الجميع على أرفع وأرقى لون حضاري عرفه الإنسان حتى يومنا الحالي، وطبقته الكنيسة المسيحية عندما كانت المرأة تسير جنبًا إلى جنب إلى جوار الرجل، في أورشليم واليهودية والسامرة، وفيلبي وكورنثوس وتسالونيكي وروما وسائر الكنائس التي ظهرت في آسيا وأوروبا معًا.. لم يمنع هذا من التمييز بين العلاقة الوظيفية والتنظيمية بين الرجل والمرأة سواء في داخل الكنيسة أو خارجها وعلى النحو الواضح الملحوظ في الإنجيل أو التاريخ!! فمثلاً لماذا لم يختر المسيح من بين تلاميذه الاثنى عشر أو السبعين امرأة واحدة أو أكثر ولماذا قصر هذا على الرجال دون غيرهم، ولماذا لم يختر للكنائس المختلفة امرأة لتكون أسقفًا أو شيخًا، أو لماذا لم يكن ملاك واحدة من الكنائس السبع من بين النساء، رغم وجود الكثيرات اللواتي كن من أعظم الشخصيات، وكان أثرهن في الكنيسة في بعض الأوقات أعمق وأقوى من أثر الرجال، كليدية وأفودية وسنتيخي في فيلبي، وبريسكلا التي كانت الكنيسة تنتقل في بيتها بانتقالها من مكان إلى آخر، وكانت على قدرة تعليمية، مكنتها من تعليم أبلوس العظيم طريق الرب بأكثر وضوح، ومع أن بولس في ختام رسالة رومية بعث بتحياته إلى مجموعة من النساء وصفهن في الخدمة والعمل بأجل الأوصاف، ومع أن يوحنا الرسول كتب رسالته الثانية إلى كيرية المختارة، فاننا لا نعثر في الكنيسة الأولى على وظيفة قيادية للمرأة، ما خلا فيبي التي ذكر أنها خادمة الكنيسة في كنخريا ويمكن أن تترجم الكلمة «شماسة» وتاريخ الكنيسة الأولى لا يتحدث كمبدأ عام عن استخدام النساء كشماسات، وحتى لو جاز هذا فان هذه الوظيفة، وقد أخذتها المرأة على هذا النطاق الاستثنائي، لا تؤخذ بالمفهوم الكتابي المطلق..
معنى الوظائف القيادية الكبرى في الكنيسة
على أن البعض يقول إن المسيحية كان من العسير عليها أن تعطي المرأة مثل هذه الوظائف القيادية، في وقت كان فيه مركز المرأة عند الرومان أو اليهود على حد سواء في أدنى المستويات، ولم يكن العالم مؤهلا لأن يراها في مثل مركزها العتيد، وأنه كان لابد من التدرج في هذه الحركة، حتى تفهم على صحتها، وحتى تحرر من السلبيات أو الأضرار التي كان يمكن أن تنشأ فيما لو فقدت التوازن بينها وبين تقدم المرأة التدريجي في التاريخ، ومع أن الرأى يبدو سليما إلى حد ما فإن المسيحية لم تقطع صلتها البتة بالأجواء والظروف والبيئات المحيطة بها، وأن ما يصلح في مكان لا يصلح بالضرورة في مكان آخر، كما أنها تدفع الحركات التقدمية في كل التاريخ إلى الأمام، غير أن هذا الرأى ما يزال قاصرًا عن ملاحظة أن الموقف الحضاري بالنسبة للمرأة المسيحية ظهرت أضواؤه بوضوح كما أشرنا من الدقيقة الأولى للمسيحية في العالم، وأن الطليعة بين النساء من أيام مريم العذراء، والمجدلية وليدية، وبريسكلا، وفيبي، وغيرهن، كان لهن من الجلال والنفوذ والتأثير ما يشجع على أن يأخذن كافة المراكز القيادية أسوة بالرجل دون أدنى تردد أو اقحام؟ لكن المسيحية لم تفعل لأنها ما تزال تفرق بين المساواة والتنظيم الوظيفي للذكورة والأنوثة في حياة الناس، وأن مريم العذراء أم المخلص، والتي اصطفاها الله وفضلها على جميع النساء في العالم، هذه السيدة المباركة أمر الرب أن تضم إلى خاصة يوحنا دون أن يمس هذا مركزها المقدس في شيء،.. ولكنه التنظيم الوظيفي في الحياة بين الناس، ولا شبهة في أن الكثيرات من النساء، ممن ذكرنا وغيرهن فاقت الواحدة فيهن بالخدمات، مما يتعذر على عشرات من الرجال مجتمعين معا، دون أن ينال هذا من التنظيم الذي يأخذ فيه الرجل أصلا، وعادة، مكان الرأس أو القائد..
فإذا عدنا لوضع السؤال بصورة أخرى، نرى فيها إمكانية وضع المرأة موضع القيادة على كافة المستويات وتخيلنا ماذا يمكن أن تكون حال الدنيا لو أن المرأة هي القائد في البيت أو الكنيسة أو المجتمع أو الجيش أو العالم بأسره، منفردة في ذلك أو متبادلة مع الرجل في هذا الموقع أو ذاك. أو سيدة أو رئيسة في بعض المجالات أو الميادين!! أيكون حال الدنيا أقل أو أسوأ؟ أيمكن أن تكون البيوت أهدأ أو أشر؟ وهل تتقدم الكنائس وتنمو أو تتراجع وتفشل؟ وهل يطلب البشر ضروريات الحياة أو ينزعون إلى الترف والكماليات؟ وهل يسود السلام أم تعم الحروب؟ كل هذه وغيرها من الأفكار التي يمكن أن تنهض عن هذا السؤال، لست أظن أنه من السهل الإجابة عليها بمعزل عن الوحي والتاريخ وأحداث العصور والأجيال...
ولعل القراءة المدققة لكلمة الله، وملاحظة الطبيعة، وأحداث الحياة والتاريخ تؤكد أن مكان المرأة على الدوام خلف الرجل، حيث هناك عملها ونشاطها ومملكتها العظيمة، وأنه لا يجوز بحكم التنظيم الوظيفي الإلهي لها، أن تأخذ مركز القيادة إلا من قبيل الاستثناء حين يضيع الرجل، أو يهمل رسالته أو يفقدها، أو يخور تجاهها، فلا تثريب هنا علي المرأة كالإناء الأضعف أن تحل محله في مثل هذه الحالات ليعطي المجد خالصًا وكاملاً للإله العظيم وحده الذي يستطيع أن يتمجد في الأنثى كما في الذكر سواء بسواء.
دبورة وأغنيتها
وأخيراً نأتي إلى أغنية دبورة التي غنتها غداة نصرها العظيم مع القائد باراق، والأغنية من الشعر العبري الرفيع، وتعد واحدة من أعظم الأغاني وأصدقها في التعبير عن الجو الحربي والوطني الذي قد يعيشه المرء في وطن محتل وشعب معذب، ولا نستطيع أن ننظر إلى الأغنية من هذا القبيل، دون أن نتذكر، أن دبورة غنتها في القرن الرابع عشر قبل المسيح، وأن روح دبورة أو يا عيل التي قتلت الرجل النائم الآمن في خيمتها، هي أشبه الكل بتلك الروح التي انتفضت ذات يوم في ابني زبدي وهما يريدان نارا من السماء تأتي لتحرق قرية من قرى السامرة لأنها رفضت دخول المسيح أو إيوائها له، فانتهرهما وهو يقول : «من أي روح أنتما لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص...» على أن دبورة وهي تغني لم تنظر إلى وطنها كمجرد وطن، ولا شعبها كمجرد شعب، بل نظرت إلى هذا الوطن وهذا الشعب، كأداة واعلان لمجد الله في الأرض، ومن أجل ذلك فهي تقر في يقين بأن الخراب والضياع والمأساة التي عاناها الشعب، جاءت لأنه استبدل إلهه بآلهة أخرى حديثة وانحرف عن الله، واعوج في السبيل، كما أن المعركة التي خاضتها، كانت عندها ليست مجرد معركة وطنية، بقدر ما هي معركة إلهية، ولأجل ذلك فهي تسخر من الذين رفضوا الدخول في المعركة، وجلسوا على المساقي بين الحظائر لسمع الصفير لقطعان الأغنام، وهم يتشدقون بالفارغ من حديث أو كلام كما لعنت من وقف على الحياد!
ولست أتصور أن هناك ما يمكن أن نختم به هذه الأغنية بأفضل من كلمات بروفسور مكاي عندما قال: «والآن أليس بينكم من يسمع الدعوة الإلهية كما سمعتها دبورة في القديم،.. فهناك بيوت خربة، ضائعة بينكم في هذه الأيام كما كانت أيام دبورة قديمًا، فالشهوة، والإدمان، والاغتصاب، والشر هي جيوش سيسرا القديمة التي ذبحت في طريقها عشرات الآلاف في أرضنا البهيجة فماذا أنتم فاعلون تجاه هذا الخراب؟ وهل لا يوجد بينكم من ينهض كدبورة لينضم إلى ذلك الجمع النبيل من الرجال والنساء، الجمع الذي لا يمكن أن يهدأ أو يستريح حتى يضرب ضربته القاضية لمجد الله، والإنسانية؟ ألستم تسمعون نداء المسيح أيتها الأخوات من النساء؟ أجل فإنه نفس الصوت الذي جاء قديمًا إلى بنات أورشليم عندما قال : «يا بنات أورشليم لا تبكين علي، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن...» ابكين بكاء الضراعة والحزن على غيركن من أخوات خاطئات.... ألا فانهضن من فراش تنعمكن، وهدوء جمودكن وسرن مع المسيح في «طريق الآلام» لتساعدنه بمساعدة إخوتكم من الرجال والنساء...».
ابو ماضى- مراقب عام المنتدى
- عدد المساهمات : 440
تاريخ التسجيل : 23/05/2010
العمر : 51
مارجرجس والشهداء :: الثاتية :: المزامير :: السنكسار :: الثالثة :: أقوال الاباء :: الرابعة :: شخصيات من الكتاب المقدس
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى